26 سبتمبر 2024
هل تضلل الصين العالم بشأن كورونا وتسعى إلى قيادته؟
تظهر "شطحاتٌ" تحليليةُ، وتنتشر هذه الأيام في العالم العربي، بين من يُفترض أنهم "محللون" سياسيون، مفادها بأن أزمة تفشي وباء كورونا في العالم ستفضي عقب انتهائها إلى تغيير عميق في ميزان القوى العالمية: بحيث تتقدّم الصين إلى قيادة العالم، عوضاً عن الولايات المتحدة الأميركية، والتحالف الغربي عموماً. وتستند مثل هذه التحليلات، بشكل عام، إلى ما ظهر خلال الأزمة الحالية من فشل الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية في التصدّي الجدّي لانتشار فيروس الوباء بين مواطنيها، مقارنةً بنجاح الصين في هذه المهمة، ما سينعكس لاحقاً بشكل أساسي على اقتصاد كلا الطرفين، ومن ثم على تفوّقه الدولي، كذلك، وهذا هو الأهم، إخفاق الدول الغربية في دعم بعضها بعضاً في أثناء هذه الجائحة الكونية، ما سينعكس تالياً على تماسكها وتحالفها.
والحق أن هذه التحليلات أخفقت في التمييز بين أمرين: الأول، تهديد نتائج هذه الأزمة التماسك في معسكري الولايات المتحدة- أوروبا الغربية والاتحاد الأوروبي، وهو أمر جدّي ظهر على وجه الخصوص في تخلي أوروبا الغربية عن إيطاليا منذ بداية الأزمة، ما ساهم في انهيار النظام الصحي الإيطالي في مواجهة انتشار المرض. الثاني، إمكانية أن يفضي وضع دولي كهذا إلى تفوق الصين على الولايات المتحدة وحليفاتها في أوروبا الغربية، اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً وثقافياً، في نهاية المطاف. والحال أن ثمّة بين الأمرين فرقا كبيرا، لا يصح معه القول إن أولهما يُفضي، بالضرورة، إلى ثانيهما.
بكلمات أخرى: تفكك المعسكر الغربي أو تضعضعه نتيجة أزمة كورونا، بشكل يفضي إلى تغيير النظام العالمي السائد منذ انتهاء الحرب الباردة قبل ثلاثة عقود، لا يعني بأي حال تقدّم الصين إلى قيادة العالم، لمجرّد أنها استفادت من التذمر الإيطالي تجاه أوروبا، أو نسجت علاقات ثقة مع إسبانيا وصربيا وغيرها من الدول الأوروبية، بفضل مساندتها وتقديم المساعدات لها للتصدّي للوباء العالمي.
أكثر من ذلك، أن الصين نفسها لا تخطط ولا تنوي، وتعرف أنها لا تقدر، على قيادة العالم حالياً، أياً كانت النتائج التي تفضي إليها كورونا. غاية ما في الأمر أن الصين تريد أن تقطع خطواتٍ
إضافيةً سريعةً في مشوار الألف ميل الذي رسمته لنفسها لتصير القوة الاقتصادية الأولى في العالم في العام 2049، أي في الذكرى المئوية الأولى لتأسيس جمهورية الصين الشعبية، وتلك خطةٌ صينيةٌ معلنة، أداتها مبادرة "الطريق والحزام" التي تريد الصين أن تنسج عبرها علاقات اقتصادية وسياسية وثقافية مع دول العالم، لتعزّز من خلال ذلك حضورها الدولي بعد عقود طويلة من الانكفاء داخل الحدود، ولكن ذلك ليس معناه قيادة العالم، فتلك مسألة أخرى تماماً.
لا توفر الصين مناسبة لتحقيق فوائد وطنية لصالح مشروعها النهضوي، المستند إلى التنمية وتطوير الاقتصاد. هكذا كان الحال إبّان الأزمة المالية العالمية التي أصابت العالم أواخر العقد الأول من القرن الحالي، إذ تمكّنت الصين نتيجتها من شراء ونقل تكنولوجيا متطورة لصناعاتها، خصوصا لصناعات وسائل النقل، ما جعل الصين تنتج أفضل القطارات، وتتقدّم بشكل غير مسبوق في صناعة السيارات والطائرات، خلال السنوات العشر الأخيرة.
على المنوال نفسه، تريد الصين أن تستفيد من الأزمة الراهنة لتبني شراكاتٍ جديدةً في أوروبا، تنعكس لاحقاً على كفاءة التصدير لديها، إذا ما توفرت على شراكات في طرق النقل البري والموانئ البحرية، كذلك في مجال الحصول على تكنولوجيا متطوّرة من دول أوروبية جديدة، ما سيكون له كله انعكاسات اقتصادية إيجابية أكيدة عليها. وفي المحصلة، سينعكس التغيير العميق نتيجة أزمة كورونا في العالم على شكل إضعاف التفرّد الأميركي والغربي بالنظام العالمي القائم، بحيث يميل أكثر إلى تعدّدية الأقطاب، ولكن من دون أن يفضي إلى تقدّم الصين إلى قيادة العالم.
الأكثر طرافة من تلك التحليلات التي لا يعرف أصحابها الصين جيداً ما ذهب إليه نفر آخر من المحللين الخائفين من سيطرة الصين على العالم، بدعوى أنها دولة ديكتاتورية ذات نظام شمولي، مستعيدين بذلك ما يعرفونه عن أنظمة القمع التي شهدها العالم في الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية، وما شهدناه نحن العرب في الأنظمة البوليسية التي ادّعت القومية والاشتراكية. ولأنهم لا يعرفون الصين جيداً خلطوا بين أن يكون النظام شمولياً وأن يكون فاسداً، فكل تلك الأنظمة الشمولية التي عرفها العالم سابقاً جعلت الديكتاتورية باباً يلج منه الفاسدون وضعاف الكفاءة لمجرّد أنهم يعلنون الولاء لها، ما أفضى إلى فشل دولها وانهيارها. أما الحال في الصين فليس نفسه، وسر نجاح الصين اعتمادها على المتفوقين والأذكياء، وإغلاقها عضوية الحزب الحاكم في وجه ضعاف الكفاءة، ما منع تسرّبهم إلى مفاصل إدارة الدولة، ومنع كذلك شيوع الظلم بين المواطنين في مجالات الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. على أن هذا التفصيل لا يمتدح الديكتاتورية ولا الشمولية، أياً كانت هويتهما، وإنما يشرح اختلاف الصين عن غيرها شرحاً موضوعياً لا غير.
وعلى المنوال نفسه، يتبنى محللون، لا معلومات فعلية لديهم في الحقيقة، رأياً يتهم الصين بعدم
الشفافية في الإعلان عن عدد مصابي فيروس كورونا المستجد، والكذب في شأن الادعاء بتراجع الإصابات، ومحاصرة الفيروس في بؤرته في مدينة ووهان، هذا على الرغم من انتشار فيديوهات تظهر مغادرة مواكب الكوادر الطبية تلك المدينة على وقع التصفيق والتحية من سكانها، وأخرى تظهر عودة الحياة الطبيعية إليها بعد النجاح في التصدّي لخطر الفيروس. ولما كان هؤلاء "المحللون" لا معلومات لديهم سوى ما تبثه وكالات الإعلام الغربية عن الصين، ولا اتصالات لهم مع الداخل الصيني، فإنهم في الحقيقة إنما يستندون على ذلك الخلط نفسه بين أن يكون النظام مستبداً وأن يكون فاسداً وكاذباً وأنانياً. ربما يكون مناسباً تذكيرهم هنا، وهم الذين لا يتوفرون على أي معلومات سوى انطباعاتهم الشخصية، بتلك المقولة الخالدة في التراث العربي الحديث "إنما ينهض بالشرق مستبد عادل"، وقد نهضت الصين، أيها السادة، على خير ما يكون عليه نهوض أمة شرقية عرفت ما عرفناه نحن العرب من استعمار ومهانة وإمبريالية، فهل تنهض أمة كهذه في أقل من نصف قرن، باستبداد ظالم وفاسد، أم باستبداد عادل بالضرورة؟ وإن كان قياسهم يستند على ارتباك الصين في مواجهة خطر المرض في البداية، فذلك ما حصل مع الدول كلها، للأسف الشديد، وأدى إلى انتشاره على الشكل الذي نشهده في غير مكان.
ولما كنتُ لا أجد دليلاً موضوعياً على كذب الحكومة الصينية في شأن صحة مواطنيها، ولمّا كنت أتواصل مع أصدقائي الصينيين في الداخل الصيني، وأطمئن عليهم، وأجد أنهم يعودون إلى حياتهم الطبيعية فعلاً شيئاً فشيئاً، ولما كنت رأيت غير مرة كيف انعكست النهضة الصينية إيجابياً على معيشة قطاعات واسعة منهم بشكلٍ لا يستوي معه أن تقوم الدولة على الفساد، فإنني، كعربي يحلم بنهضة أمته، لا أستطيع أن أضع الصين في خانة الاتهام لمجرّد أن الإعلام الغربي يريد ذلك ويروّجه، بل لا أستطيع سوى أن أغبط الصينيين على نجاحهم في التحوّل إلى أمةٍ تقارع الدنيا، وتقرع أبواب المستقبل.
بكلمات أخرى: تفكك المعسكر الغربي أو تضعضعه نتيجة أزمة كورونا، بشكل يفضي إلى تغيير النظام العالمي السائد منذ انتهاء الحرب الباردة قبل ثلاثة عقود، لا يعني بأي حال تقدّم الصين إلى قيادة العالم، لمجرّد أنها استفادت من التذمر الإيطالي تجاه أوروبا، أو نسجت علاقات ثقة مع إسبانيا وصربيا وغيرها من الدول الأوروبية، بفضل مساندتها وتقديم المساعدات لها للتصدّي للوباء العالمي.
أكثر من ذلك، أن الصين نفسها لا تخطط ولا تنوي، وتعرف أنها لا تقدر، على قيادة العالم حالياً، أياً كانت النتائج التي تفضي إليها كورونا. غاية ما في الأمر أن الصين تريد أن تقطع خطواتٍ
لا توفر الصين مناسبة لتحقيق فوائد وطنية لصالح مشروعها النهضوي، المستند إلى التنمية وتطوير الاقتصاد. هكذا كان الحال إبّان الأزمة المالية العالمية التي أصابت العالم أواخر العقد الأول من القرن الحالي، إذ تمكّنت الصين نتيجتها من شراء ونقل تكنولوجيا متطورة لصناعاتها، خصوصا لصناعات وسائل النقل، ما جعل الصين تنتج أفضل القطارات، وتتقدّم بشكل غير مسبوق في صناعة السيارات والطائرات، خلال السنوات العشر الأخيرة.
على المنوال نفسه، تريد الصين أن تستفيد من الأزمة الراهنة لتبني شراكاتٍ جديدةً في أوروبا، تنعكس لاحقاً على كفاءة التصدير لديها، إذا ما توفرت على شراكات في طرق النقل البري والموانئ البحرية، كذلك في مجال الحصول على تكنولوجيا متطوّرة من دول أوروبية جديدة، ما سيكون له كله انعكاسات اقتصادية إيجابية أكيدة عليها. وفي المحصلة، سينعكس التغيير العميق نتيجة أزمة كورونا في العالم على شكل إضعاف التفرّد الأميركي والغربي بالنظام العالمي القائم، بحيث يميل أكثر إلى تعدّدية الأقطاب، ولكن من دون أن يفضي إلى تقدّم الصين إلى قيادة العالم.
الأكثر طرافة من تلك التحليلات التي لا يعرف أصحابها الصين جيداً ما ذهب إليه نفر آخر من المحللين الخائفين من سيطرة الصين على العالم، بدعوى أنها دولة ديكتاتورية ذات نظام شمولي، مستعيدين بذلك ما يعرفونه عن أنظمة القمع التي شهدها العالم في الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية، وما شهدناه نحن العرب في الأنظمة البوليسية التي ادّعت القومية والاشتراكية. ولأنهم لا يعرفون الصين جيداً خلطوا بين أن يكون النظام شمولياً وأن يكون فاسداً، فكل تلك الأنظمة الشمولية التي عرفها العالم سابقاً جعلت الديكتاتورية باباً يلج منه الفاسدون وضعاف الكفاءة لمجرّد أنهم يعلنون الولاء لها، ما أفضى إلى فشل دولها وانهيارها. أما الحال في الصين فليس نفسه، وسر نجاح الصين اعتمادها على المتفوقين والأذكياء، وإغلاقها عضوية الحزب الحاكم في وجه ضعاف الكفاءة، ما منع تسرّبهم إلى مفاصل إدارة الدولة، ومنع كذلك شيوع الظلم بين المواطنين في مجالات الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. على أن هذا التفصيل لا يمتدح الديكتاتورية ولا الشمولية، أياً كانت هويتهما، وإنما يشرح اختلاف الصين عن غيرها شرحاً موضوعياً لا غير.
وعلى المنوال نفسه، يتبنى محللون، لا معلومات فعلية لديهم في الحقيقة، رأياً يتهم الصين بعدم
ولما كنتُ لا أجد دليلاً موضوعياً على كذب الحكومة الصينية في شأن صحة مواطنيها، ولمّا كنت أتواصل مع أصدقائي الصينيين في الداخل الصيني، وأطمئن عليهم، وأجد أنهم يعودون إلى حياتهم الطبيعية فعلاً شيئاً فشيئاً، ولما كنت رأيت غير مرة كيف انعكست النهضة الصينية إيجابياً على معيشة قطاعات واسعة منهم بشكلٍ لا يستوي معه أن تقوم الدولة على الفساد، فإنني، كعربي يحلم بنهضة أمته، لا أستطيع أن أضع الصين في خانة الاتهام لمجرّد أن الإعلام الغربي يريد ذلك ويروّجه، بل لا أستطيع سوى أن أغبط الصينيين على نجاحهم في التحوّل إلى أمةٍ تقارع الدنيا، وتقرع أبواب المستقبل.