بدأت عملية إحكام الطوق على الفساد في الجزائر منذ تنحي الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة عن الحكم في 2 إبريل/ نيسان 2019 رضوخاً لضغط الحراك الشعبي، وبعدها تمّ اعتقال العديد من كبار رجال الأعمال والمسؤولين السياسيين والعسكريين والمقربين من دوائر الحكم بتهم الفساد وسوء استغلال السلطة وتبديد مبالغ طائلة من المال العام قُدِّرت بما يقارب 200 مليار دولار خلال عقدين من حكم بوتفليقة.
علما بأنّ هذه الفترة تزامنت مع نهاية سنوات العجاف التي عاشتها البلاد وبداية السنوات السمان التي شهدت صراعاً داروينياً، حيث البقاء للأقوى والأكثر فساداً، وتسبَّبت بتخمة الحسابات البنكية للفاسدين بمليارات الدولارات والتي تمّ تهريبها إلى الخارج بمجرَّد تصدُّع عرش بوتفليقة.
والزجّ بالفاسدين خلف قضبان السجون لا يضمن استرجاع الأموال المهرَّبة إلى الخارج، فهذا يحتاج إلى خبرة كبيرة في الميدان وتعاون دولي وهذا ما تفتقر إليه الجزائر تماماً، ولنا في شكيب خليل وزير الطاقة والمناجم السابق خير مثال، فقد هرَّب أموالاً طائلة إلى الخارج وعاد إلى الجزائر بصفحة جديدة ناصعة البياض في نظر الحكومة.
ضعف التعاون الدولي
أول ما صرَّح به وزير العدل حافظ الأختام سليمان براهمي أثناء إشرافه على مراسم تنصيب الرئيس الأول الجديد للمحكمة العليا عبد الرشيد طبي هو أنّ التحقيقات في جرائم الفساد ستطول مدتها، نظراً لضخامة المبالغ المنهوبة.
ومن المعلوم أنّ تأخر التحقيقات يؤدي إلى تأخير صدور الأحكام النهائية، وهذا ما يؤجل بدوره تفعيل الاتفاقيات الدولية، فإن كانت التحقيقات ستستغرق فترة تفوق السنة فماذا عن البروتوكولات الدولية لاستعادة الأموال المُهرَّبة إلى الخارج والتي يمكن أن تصل إلى 20 سنة، لا سيَّما مع افتقار الجزائر لفنّ المفاوضات والمناورة مع الدول الأوروبية ودول أخرى كالإمارات وهونغ كونغ.
ومماطلة الدول الأجنبية أو امتناعها عن التعامل بالاتفاقيات الدولية من شأنها أن تضع الجزائر أمام سدّ منيع يحول دون استرجاعها لأموالها، لحدّ الآن هناك فقط سويسرا التي أعربت، وعلى لسان النائب والمستشار الفيدرالي السويسري إجنازيو كاسيس، عن تعاونها مع السلطات الجزائرية لاسترجاع الأموال المهرَّبة إليها.
وسويسرا، وفي أقصى حالات الاستجابة لطلبات الدول المتضرِّرة، تقوم بتجميد الأرصدة المشبوهة ويبقى إرجاع تلك الأموال غير خاضع لمدة زمنية وقد يكون مستحيلاً في أغلب الأحيان، وماذا عن الملاذات الأخرى التي تظهر في صورة متفرج بريء لم تتلطَّخ يداه وترفض التفريط في الأموال المنهوبة والتي حتى إن استجابت للجزائر فستطلب إثباتات كثيرة وأدلة كافية وقاطعة على أنّ الأموال المودعة في مصارفها أو التي هي بحوزتها هي أموال منهوبة فعلاً.
خبرة مفقودة
فترة عقدين من الزمن سمحت لكل الفاسدين بنهب أموال طائلة من الصعب تقديرها بسبب المحاولات البائسة لطمس الشفافية، ولكن الأغلفة المالية التي خُصِّصت للميزانيات واحتياطي النقد الأجنبي وفوهة التمويل غير التقليدي التي فتحت على أشدها خلال هذه الفترة تنمّ عن حجم الأموال التي تمّ نهبها محلياً.
ولم تحرِّك الحكومة ساكناً لاسترجاع تلك الأموال، حتى فضائح نهب المال العام التي دنَّست فترة حكم بوتفليقة تمّ تفجيرها من الخارج خصوصاً من إيطاليا وإسبانيا. وقد سمح مزيج من الخوف والتواطؤ بإفلات هؤلاء الفاسدين من قبضة العدالة، كما أطلق إرخاء معايير المساءلة سباقاً نحو القاع في الجزائر.
ولم تجرؤ الحكومة الجزائرية حتى على فعل ما فعلته السعودية عندما احتجزت كبار الشخصيات ورجال الأعمال في أفخم الفنادق بالرياض في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني سنة 2017 وأفرجت عنهم مقابل تحصيل مبلغ إجمالي قُدِّر ب، 35 مليار دولار حسب حديث لمحمد بن سلمان ولي العهد السعودي لوكالة بلومبيرغ. ولقد مكَّن كل من انعدام الخبرة وغياب الجرأة لاسترجاع المال المنهوب من تفشي الفساد الذي تعدَّدت صوره وأشكاله وطرق ممارسته ولكنها تجتمع جميعها وتترعرع تحت عباءة فشل الدولة في التصدِّي لهذه الآفة.
وعجز الحكومة عن استرجاع ولو جزءاً بسيطاً من تلك الأموال المختلسة محلياً يؤكِّد حتماً عجزها عن استرجاع الأموال المهرَّبة إلى الخارج، خصوصاً في ظلّ ضعف التعاون الدولي.
المفاوضات أسرع الطرق
يفرض كل من غياب الخبرة وتراخي الدول المستقبلة للأموال المنهوبة في إرجاعها واقعاً صارماً يضع الحكومة الجزائرية الحالية أمام خيار التفاوض مع الفاسدين الذين يقبعون في سجن الحراش كحلّ سريع لاسترجاع الأموال المهرَّبة إلى الخارج وبحث إمكانية توقيعهم على بروتوكول اتفاق لتحويل الأموال من الملاذات الآمنة إلى الجزائر، خاصّة في ظلّ انعدام المعلومات عن حجم الأموال التي قاموا بنهبها وتحويلها إلى بنوك أجنبية في الخارج وكذا استحالة معرفة تلك البنوك.
ولنا في التجارب الدولية أمثلة عديدة، مثلاً روسيا نفسها عجزت عن استرجاع أموالها المنهوبة والمهرَّبة إلى أميركا التي بدورها سحبت البساط من تحت سويسرا وأصبحت المقرّ الأول للأموال السرية في عصرنا الحالي، فالولايات المتحدة لا تطبِّق على نفسها المعايير التي وضعتها لإرجاع الأموال المنهوبة، فبوسع أميركا أن تطلب معلومات مالية من كل البنوك في العالم ولكنها تمتنع تماماً عن تقديم معلومات مماثلة لأيّ دولة أخرى.
وقد ازداد الطين بلة مع صعود سمسار العقارات دونالد ترامب إلى سدة الحكم والذي نفض عن أميركا غبار المعايير الأخلاقية القديمة وجعل العقارات الأميركية متاحة لكل الفاسدين وسارقي الأموال حول العالم.
ويمكن القول إنّ المفاوضات تعتبر حلاًّ ناجعاً لمواجهة اللامبالاة والتثاؤب الذي باتت الملاذات الآمنة تقابل بهما الدول التي نُهِبت ثرواتها، خاصة وأنّ تلك الملاذات قد أضافت الشرعية على اقتصاد الظلام وفتحت أبوابها للفاسدين الذين يتطلَّعون للفرار بملياراتهم وأثبتت بجدارة أنّها خادم مخلص للناهبين من كلّ أنحاء العالم.