يعد هذا الكتاب الجزء الأخير لثلاثية كتاب "الصين"، والتي سبق أن فازت بجوائز عديدة وبقيت رائجة في المكتبات الصينية، مما يدل على أن هذه المؤلفات ذات المسحة التفاخرية لامست رغبات قوية عند القراء الصينيين. ويعود ذلك، برأي المؤلف، إلى رغبة الجمهور في تكوين فهم منهجي لأوضاع بلدهم الحالية ومكانتها الواقعية في العالم، على خلفية تصاعد نمو الاقتصاد الصيني وإعجاب العالم به. وتشكل الخطاب السياسي الصيني الذي يطرح ذاتا متميزة في مواجهة الخطاب السياسي الغربي، الذي ما زال يسيطر على العالم. ورغم أن المؤلف ويوي تشاي مدير مركز دراسات النمط التطوري الصيني بجامعة فودان في شانغهاي، نجح، إلى حد ما، في تلبية الحاجة الأولى، إلا أنه انخرط هو نفسه في تشكيل الخطاب الصيني المتنافس مع الغرب، ولو عن غير قصد، في تكرار متجددٍ لرؤية الاستشراق الجوهرية التي ميزت الصين (والشرق) عن الغرب. وهو ما سماه صادق جلال العظم سابقاً في سياق جدله مع أطروحة الاستشراق التي قدمها إدوارد سعيد بـ"الاستشراق المعكوس".
لخّص المؤلف في كتابه هذا خبرات الصين في إنجاز النمو السريع والمستدام بـ"تمازج الدولة الحديثة مع الحضارة العريقة". وهذا التمازج هو ما يميز الصين عن غيرها من دول العالم، من حيث تعداد سكانها الهائل، ومساحتها الشاسعة، وتاريخها الطويل، وتراثها الثقافي الغني، ولغتها، وسياستها، ومجتمعها، واقتصادها الفريد من نوعه، إذ إن الدول الحضارية الكبرى، وخاصة المذكورة تلك، تبعا للمؤلف، لا تستورد النمط التطوري من الغرب بدون تغييره وتكييفه، بل تنمو وفق منطق حضارتها الذاتي.
نظرا لذلك، ومنذ بداية الإصلاح والانفتاح في نهاية السبعينيات من القرن العشرين، لم تتبن الصين النهج الاقتصادي المتطرف في اللحاق بالنمط الغربي كما فعلت روسيا ودول شرق أوروبا، أو الأسلوب المحافظ كما في كوبا، بل قد أنتجت تجربتها الخاصة، والتي، في رأي المؤلف، رسخت أربعة نظم ضمنت وستضمن النمو المستدام والوحدة والاستقرار في الصين، وهي: نظام حزب الدولة الذي يمثل مصالح الأمة الصينية كلها، ونظام التشاور الديمقراطي خلافا للديمقراطية الغربية التي تهتم دائما بسطحية الاقتراع العام، ونظام اختيار الكوادر وفقا لجدارتها، ونظام الاقتصاد الاشتراكي المختلط. ويعتقد المؤلف أن هذه النظم الأربعة هي التي ساعدت على التوصل إلى التوازن الحالي في الصين بين القوى السياسية والاجتماعية والرأسمالية.
وهذا التوازن هو المفتاح الذي قاد إلى تحقيق منجزات الصين المدهشة في التحديث والإصلاح في العقود الأخيرة. برغم موضوعية تحليل المؤلف لنجاح نهضة الصين، إلا أنه انهمك طويلاً في إظهار دونية النظم الغربية وتفوق النظم الصينية، مما اصطنع فروقات مبالغة بين الصين والغرب، وحوّل التحليل الموضوعي إلى جدل أيديولوجي. فالمؤلف انتقد النظم الغربية، وعلى رأسها النظم الأميركية، ورأى أنها منقوصة في نواحٍ عديدة. وقد زعم، على سبيل المثال، أن الديمقراطية الأميركية التي تهتم بالفصل بين السلطات الثلاث والاقتراع العام قد اختُطفت من قبل كتل المصالح الكبرى.
وعزا ذلك إلى فشل هذه الديمقراطية في الحد من القوة الرأسمالية، وفي التوصل إلى التوازن بين القوى السياسية والاجتماعية والرأسمالية كما حصل في الصين. من هنا ينتقل المؤلف إلى تشكيل الخطاب الصيني لمواجهة الخطاب الغربي الذي يدعم ويروج المركزية الأوروبية أو الغربية، وتفوق حضارتها، ورؤية انتهاء التاريخ عند الليبرالية وقيم الديمقراطية الغربية. لم يتوقف المؤلف كثيرا عند البراغماتية والمرونة الصينية. وهما، في رأيي، من أهم مقومات نجاح الصين في تحقيق نموها الاقتصادي، مقارنة بالعالم الذي تسيطر عليه أيديولوجية الليبرالية والديمقراطية المتحجرة غير المرنة.
لكن المؤلف انهمك في مهمة نقض وتقويض الخطاب الغربي، وشطّ في تبنيه خطابا صينيا مصبوغا بنزعة قومية دفاعية واعتذارية شديدة. وزعم أن الصين تفوقت على الغرب في أغلب الحقب الزمنية في الألفيتين الماضيتين، وأن الحضارة الشرقية، وخاصة الصينية، هي القوة الدافعة والينبوع الرئيسي لحركة النهضة والتنوير في أوروبا في القرون من السادس عشر وحتى الثامن عشر.
كما أن بعض المفاهيم المهمة في النظرية السياسية والاقتصادية الغربية الحديثة مثل "اقتصاد عدم التدخل" و"الخدمات الاجتماعية" جاءت أصلا من الصين. وهنا يجوز لنا أن نتساءل حول الفرق بين وصف الصين كدولة متميزة متفوقة ماضيا وحاضرا ومستقبلا، وبين وصف المستشرقين الغرب بأنه الكتلة الحضارية المتفوقة ماضيا وحاضراً. وما فائدة استبدال خطاب تفوق الحضارة الغربية بتفوق الحضارة الصينية؟ وهل سيغير هذا الاستبدال منطق الاستشراق الذي لا يزال يعزز سيطرة الخطاب الغربي على العالم؟
يبدو أن ما دفع المؤلف إلى تشكيل الخطاب الصيني ليس الثقة الشديدة بتفوق النمط الصيني، بل الحاجة الراهنة إلى هذا النوع من الخطاب "التفوقي" بهدف مواجهة العداوة المتزايدة في العالم لطموحات الصين، بعد ازدهارها الاقتصادي, وأيضا لتخفيف حيرة بعض الصينيين إزاء التوتر بين تعاظم القوة البيروقراطية الرأسمالية في الصين وتراث الثورات الصينية الاشتراكية، وبين عولمة الحداثة والمحافظة على الذاتية الصينية.
*جواد تشاوتشيون ليان باحث في الدراسات العربية والشرق أوسطية، جامعة كامبردج- بريطانيا
لخّص المؤلف في كتابه هذا خبرات الصين في إنجاز النمو السريع والمستدام بـ"تمازج الدولة الحديثة مع الحضارة العريقة". وهذا التمازج هو ما يميز الصين عن غيرها من دول العالم، من حيث تعداد سكانها الهائل، ومساحتها الشاسعة، وتاريخها الطويل، وتراثها الثقافي الغني، ولغتها، وسياستها، ومجتمعها، واقتصادها الفريد من نوعه، إذ إن الدول الحضارية الكبرى، وخاصة المذكورة تلك، تبعا للمؤلف، لا تستورد النمط التطوري من الغرب بدون تغييره وتكييفه، بل تنمو وفق منطق حضارتها الذاتي.
نظرا لذلك، ومنذ بداية الإصلاح والانفتاح في نهاية السبعينيات من القرن العشرين، لم تتبن الصين النهج الاقتصادي المتطرف في اللحاق بالنمط الغربي كما فعلت روسيا ودول شرق أوروبا، أو الأسلوب المحافظ كما في كوبا، بل قد أنتجت تجربتها الخاصة، والتي، في رأي المؤلف، رسخت أربعة نظم ضمنت وستضمن النمو المستدام والوحدة والاستقرار في الصين، وهي: نظام حزب الدولة الذي يمثل مصالح الأمة الصينية كلها، ونظام التشاور الديمقراطي خلافا للديمقراطية الغربية التي تهتم دائما بسطحية الاقتراع العام، ونظام اختيار الكوادر وفقا لجدارتها، ونظام الاقتصاد الاشتراكي المختلط. ويعتقد المؤلف أن هذه النظم الأربعة هي التي ساعدت على التوصل إلى التوازن الحالي في الصين بين القوى السياسية والاجتماعية والرأسمالية.
وهذا التوازن هو المفتاح الذي قاد إلى تحقيق منجزات الصين المدهشة في التحديث والإصلاح في العقود الأخيرة. برغم موضوعية تحليل المؤلف لنجاح نهضة الصين، إلا أنه انهمك طويلاً في إظهار دونية النظم الغربية وتفوق النظم الصينية، مما اصطنع فروقات مبالغة بين الصين والغرب، وحوّل التحليل الموضوعي إلى جدل أيديولوجي. فالمؤلف انتقد النظم الغربية، وعلى رأسها النظم الأميركية، ورأى أنها منقوصة في نواحٍ عديدة. وقد زعم، على سبيل المثال، أن الديمقراطية الأميركية التي تهتم بالفصل بين السلطات الثلاث والاقتراع العام قد اختُطفت من قبل كتل المصالح الكبرى.
وعزا ذلك إلى فشل هذه الديمقراطية في الحد من القوة الرأسمالية، وفي التوصل إلى التوازن بين القوى السياسية والاجتماعية والرأسمالية كما حصل في الصين. من هنا ينتقل المؤلف إلى تشكيل الخطاب الصيني لمواجهة الخطاب الغربي الذي يدعم ويروج المركزية الأوروبية أو الغربية، وتفوق حضارتها، ورؤية انتهاء التاريخ عند الليبرالية وقيم الديمقراطية الغربية. لم يتوقف المؤلف كثيرا عند البراغماتية والمرونة الصينية. وهما، في رأيي، من أهم مقومات نجاح الصين في تحقيق نموها الاقتصادي، مقارنة بالعالم الذي تسيطر عليه أيديولوجية الليبرالية والديمقراطية المتحجرة غير المرنة.
لكن المؤلف انهمك في مهمة نقض وتقويض الخطاب الغربي، وشطّ في تبنيه خطابا صينيا مصبوغا بنزعة قومية دفاعية واعتذارية شديدة. وزعم أن الصين تفوقت على الغرب في أغلب الحقب الزمنية في الألفيتين الماضيتين، وأن الحضارة الشرقية، وخاصة الصينية، هي القوة الدافعة والينبوع الرئيسي لحركة النهضة والتنوير في أوروبا في القرون من السادس عشر وحتى الثامن عشر.
كما أن بعض المفاهيم المهمة في النظرية السياسية والاقتصادية الغربية الحديثة مثل "اقتصاد عدم التدخل" و"الخدمات الاجتماعية" جاءت أصلا من الصين. وهنا يجوز لنا أن نتساءل حول الفرق بين وصف الصين كدولة متميزة متفوقة ماضيا وحاضرا ومستقبلا، وبين وصف المستشرقين الغرب بأنه الكتلة الحضارية المتفوقة ماضيا وحاضراً. وما فائدة استبدال خطاب تفوق الحضارة الغربية بتفوق الحضارة الصينية؟ وهل سيغير هذا الاستبدال منطق الاستشراق الذي لا يزال يعزز سيطرة الخطاب الغربي على العالم؟
يبدو أن ما دفع المؤلف إلى تشكيل الخطاب الصيني ليس الثقة الشديدة بتفوق النمط الصيني، بل الحاجة الراهنة إلى هذا النوع من الخطاب "التفوقي" بهدف مواجهة العداوة المتزايدة في العالم لطموحات الصين، بعد ازدهارها الاقتصادي, وأيضا لتخفيف حيرة بعض الصينيين إزاء التوتر بين تعاظم القوة البيروقراطية الرأسمالية في الصين وتراث الثورات الصينية الاشتراكية، وبين عولمة الحداثة والمحافظة على الذاتية الصينية.
*جواد تشاوتشيون ليان باحث في الدراسات العربية والشرق أوسطية، جامعة كامبردج- بريطانيا