اعتمد الرئيس الأميركي دونالد ترامب، خلال ما مضى من فترة رئاسته الأولى، سياسة واضحة، تقوم على محاولة إظهار الاقتصاد الأميركي في أفضل حال، من أجل ضمان إعادة انتخابه لفترة أخرى في انتخابات 2020 القادمة.
وحشد ترامب كل جنوده من أجل دفع معدلات النمو الاقتصادي، وتخفيض البطالة، ورفع الأجور، وإنعاش أسواق الأسهم، وهو ما حدث بالفعل على أكمل وجه خلال الثلاثين شهراً الأولى له في البيت الأبيض.
وحاول ترامب اللعب بورقة السياسات التجارية الحمائية، على تصور أن ما يفرضه من تعريفات جمركية سيجبر الشركات على الإنتاج من داخل الولايات المتحدة، وهو ما يدفع بالنمو الاقتصادي الأميركي، ويزيد ربحية الشركات الأميركية، ويخلق الوظائف.
واعتبر ترامب أن تلك السياسة تعد "وصفة سهلة" للنجاح في الحصول على فترة أخرى في الرئاسة، إلا أن الرياح لم تأت كما اشتهت سفن الرئيس الأميركي وفريقه الاقتصادي.
ومنذ أن بدأت الولايات المتحدة في فرض التعريفات على الصين، خلال الصيف الماضي، ورغم التأثيرات السلبية على نموها الاقتصادي، لم تقف الصين عاجزة عن الرد على القرارات الأميركية، وتنوعت ردود أفعالها بين التعريفات الانتقامية، وإيقاف استيراد بعض المنتجات الأميركية، كما استخدام أسلوب تخفيض عملتها بصورة واضحة، لتقليل التأثير السلبي للتعريفات الأميركية.
وبالفعل نجحت الصين في تحويل قدر لا بأس به من الأوجاع إلى الطرف الأميركي، فأظهرت البيانات الاقتصادية الأخيرة، كما العديد من التقارير الحديثة، الصادرة من مؤسسات عالمية وأميركية محايدة، أن التعريفات الجمركية تسببت في تباطؤ الاقتصاد الأميركي بصورة واضحة، وأن تأثيرها بدأ في الظهور على العديد من الفئات والولايات، ومنها ما لعب دوراً كبيراً في فوز ترامب في انتخابات 2016.
وفي تصعيد حديث في الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، قرر الرئيس الأميركي يوم الجمعة الماضي زيادة التعريفات الجمركية المطبقة على ما قيمته 250 مليار دولار من واردات بلاده من الصين من 25% إلى 30%، اعتباراً من الأول من أكتوبر/ تشرين الأول القادم، رداً على قرار بكين بفرض تعريفات جمركية إضافية على ما قيمته 75 مليار دولار من وارداتها من الولايات المتحدة، يطبق جزء منها أول سبتمبر/ أيلول القادم، بينما يتم تأجيل جزء آخر إلى ديسمبر / كانون الأول، وهما نفس الموعدين اللذين حددتهما واشنطن قبل فترة لبدء تطبيق تعريفاتها الإضافية، على ما قيمته 300 مليار دولار من المنتجات الصينية، بنسبة رفعها ترامب يوم الجمعة أيضاً إلى 15%، بدلاً من 10% التي سبق إعلانه عنها.
وفي نفس اليوم، انتقد ترامب جيرومي باول، رئيس بنك الاحتياط الفيدرالي، بسبب كلمته في مؤتمر البنوك المركزية السنوي، الذي عقد يومي الخميس والجمعة في جاكسون هول بولاية وايومنج الأميركية، والتي انتقد فيها السياسات التجارية للرئيس الأميركي، واعتبرها السبب في التباطؤ الاقتصادي، وخفض الإنفاق الرأسمالي للشركات، وتراجع الإنتاج الصناعي الأميركي والعالمي.
وتساءل ترامب ما إذا كان باول هو "العدو الأكبر"، بعد أن أكد الأخير وجود حدود لقدرة البنك على تحفيز الاقتصاد، خاصةً مع الاستمرار في التصعيد في المواجهات التجارية.
وفي الوقت الذي استمر الرئيس الأميركي في التصعيد ضد الصين، بفرض التعريفات على منتجاتها، ومطالبة الشركات الأميركية بالبحث عن بديل لها، بدا ترامب كمن يشعر بالحيرة بين التراجع عن فرض التعريفات، لإنقاذ الاقتصاد الأميركي، وكسب ثقة الناخبين، وبين تمسكه بأحد أهم وعوده الانتخابية في 2016، وهو إعادة صياغة علاقات الولايات المتحدة التجارية مع أهم شركائها، بما يخدم الاقتصاد الأميركي.
ويوم الأحد، ظهرت هذه الحيرة بوضوح في مدينة بياريتز الشاطئية بفرنسا، في اجتماعات قمة الدول السبع G7، التي عقدت فيها على مدار عطلة نهاية الأسبوع، عندما قال ترامب للصحافيين إنه "يراجع نفسه" بشأن التعريفات التي فرضها على الصين، ليسارع البيت الأبيض بتأكيد أن ما عناه ترامب هو أنه يراجع نفسه "ندماً على عدم فرض تعريفات أعلى على الصين"، الأمر الذي يؤكد التخبط داخل الإدارة الأميركية، التي يبدو أنها بدأت تستسلم لفكرة اقتراب الركود من الاقتصاد الأميركي، رغم ما قد يعنيه ذلك من فقدانها لأهم أوراقها في الانتخابات القادمة.
وبينما كان ترامب يأمل في الحصول على دعم البنك الفيدرالي، عن طريق تخفيض معدلات الفائدة، ما بدا أنه محاولة لاستخدام السياسة النقدية في إصلاح ما أفسدته السياسات التجارية، بدا واضحاً أن جيرومي باول، الذي لا يريد التضحية بأدوات إنقاذ الاقتصاد المحدودة التي في حوزته قبل الأوان، ما زال قادراً على الدفاع عن استقلالية البنك الأقوى في العالم، ضد الضغوط غير المسبوقة من أي رئيس أميركي.
وفي وقت يركز ترامب على محاولات إنقاذ الاقتصاد، ولو بصورة مؤقتة لحين الانتهاء من الانتخابات في 2020، لا يعبأ باول إلا بأهداف السياسة النقدية على المدى الطويل، والمتعلقة بالحفاظ على استقرار الأسعار، وخفض معدلات البطالة، وهو ما جعل البنك المركزي الأميركي يرى أن الإقدام على تخفيض معدلات الفائدة في الوقت الحالي ربما يكون سابقاً لأوانه.
الصورة الواضحة الآن هي أن الاقتصاد الأميركي يتجه لتباطؤ، ربما قد يصل مع بداية العام القادم إلى ركود كبير، وأغلب الإشارات في سوق الأسهم تشير إلى انخفاضات، يتوقع أغلب المحللين حدوثها خلال الشهور المتبقية من العام.
ولا يبدو في الأفق ما قد يساعد ترامب على منع هذه التطورات، الأمر الذي سيحرمه على الأغلب من أقوى الأوراق التي عمل على تجهيزها خلال الفترة الماضية، وهي قوة الاقتصاد الأميركي وانتعاشه.
هذه الورقة تحديداً يمكن لها أن تصبح أهم أسلحة المنافس من الحزب الديمقراطي، لو أُحسن استغلالها، وتم تقديم سياسات بديلة، تفلح في إقناع الناخب الأميركي بأن الفشل الاقتصادي كان من الممكن تجنبه، لولا سياسات ترامب وفريقه، وهو ما يعكف الديمقراطيون على تجهيزه في الوقت الحالي.