في كل مرة يقترب فيها الحزب الديمقراطي من اختيار أول امرأة لرئاسة الولايات المتحدة، يظهر لاعب جديد يقدّم خياراً أكثر إغراء للناخبين الأميركيين إلى درجة تقنعهم بتأجيل حلم اختيار امرأة للرئاسة إلى فترات لاحقة. فقبل ثماني سنوات تقريباً، أدى قدوم المرشح المنتمي للأقلية السمراء، باراك أوباما، إلى تغيير مسار المنافسة الانتخابية وتأجيل حلم الساعية لتحقيق حلم المرأة الأميركية في الوصول إلى الرئاسة، السيدة الأولى السابقة هيلاري كلينتون إلى وقت لاحق، هو الوقت الذي حل موعده، أخيراً، مع بدء التصفيات الأولية لخوض انتخابات 2016 الرئاسية.
ومع أن المناظرة الأولى بين المتنافسين على ترشيح الحزب الديمقراطي، مساء الثلاثاء، عززت إلى حد ما موقف كلينتون، إلا أن المناظرة دشّنت كذلك رسمياً حضور مرشح ديمقراطي آخر في الساحة يتبنى أفكاراً اشتراكية تجذب قطاعاً واسعاً من الأميركيين، وأصبح وجوده في حلبة المنافسة يهدد كلينتون بتحطيم حلمها في الرئاسة نهائياً، لصالح انتخاب أول رئيس اشتراكي للولايات المتحدة في تاريخها.
وتولت شبكة "سي.أن.أن" وموقع "فيسبوك" تنظيم المناظرة في أحد فنادق لاس فيغاس، وشارك فيها إلى جانب كلينتون أربعة رجال، كان موقعها بينهم من حيث الوقوف، هو موقع الوسط، حيث أحيطت من يمينها بزميلين سابقين لها في مجلس الشيوخ، ومن يسارها بحاكمي ولاية سابقين، بينما غاب عنها نائب الرئيس الأميركي، جو بايدن، الذي لم يحسم بعد أمر خوضه السباق الرئاسي للمرة الثالثة، ومع ذلك فإن منظمي المناظرة خصصوا موقعاً سادساً على المنصة تحسباً لقدوم بايدن في اللحظات الأخيرة للمشاركة قبل بدء المناظرة.
ومن المصادفات اللافتة أن موقع كلينتون الوسطي على المنصة يتناسب مع موقعها الأيديولوجي على مسافة واحدة بين أقصى اليمين الرأسمالي وأقصى اليسار الاشتراكي، وفقاً لما رسمه في الأساس زوجها الرئيس السابق، بيل كلينتون، الذي قد يخسر حلمه هو الآخر أن يصبح أول "سيد أول" في تاريخ الولايات المتحدة. ووقف المرشحان، مارتن أومالي ولينكولن تشافي إلى جهة اليسار من هيلاري كلينتون، وفاخر الأول بأنه المرشح الوحيد الذي يتمتع بخبرات سابقة كعمدة مدينة بالتيمور ثم حاكم ولاية ميرلاند مروراً بعضويته في مجلس الشيوخ. فيما فاخر تشافي بخلو سجله من الفضائح، ملمّحاً بصورة غير مباشرة إلى هيلاري كلينتون بسبب فضيحتها المتعلقة باستخدام بريدها الإلكتروني الشخصي في مراسلات لها صلة بمنصبها السابق كوزيرة للخارجية الأميركية.
وإلى أقصى جهة اليمين من هيلاري كلينتون، وقف الرجل الرابع السيناتور السابق عن ولاية فرجينيا جيم ويب، مقدّماً أفكاراً أظهرته كمرشح جمهوري لا ديمقراطي، وفقاً لما أحدثته آراؤه من تعليقات عقب المناظرة. وقدّم ويب ورقة القوات المسلحة وخبراته السابقة كضابط في البحرية الأميركية ومسؤول في البنتاغون، طارحاً نفسه على أنه الوحيد بين المرشحين الخمسة المؤهل ليكون قائداً أعلى للقوات المسلحة.
أما الرجل الذي يخشى أنصار الزوجين كلينتون أن يسلبهما حلمهما في العودة إلى البيت الأبيض، فهو السيناتور عن ولاية فيرمونت، بيرني ساندرز (74 عاماً)، الذي كان موقعه في المناظرة، وقوفاً، إلى يمين هيلاري كلينتون مباشرة، لكنه فكرياً ابتعد عنها كثيراً باتجاه اليسار، وجاهر بأفكار اشتراكية صريحة. وفاخر ساندرز بانحيازه للفقراء، وأنه المرشح الوحيد الذي لا ينتمي لطبقة الأغنياء من أصحاب الملايين. وحاول خلال المناظرة إثبات قدرته على تحمل الأعباء الرئاسية، وأنه ليس مجرد سياسي يطرح آراء مثيرة للجدل وغير قابلة للتطبيق في الواقع.
ومما يدعو للاستغراب أن طروحات ساندرز الاشتراكية اليسارية، التي كان الأميركيون في الماضي ينظرون إليها على أنها شاذة أو غريبة على المجتمع الرأسمالي، فرضت نفسها على الساحة الأميركية بشكل غير متوقع، ومكّنته من التفوق في بعض استطلاعات الرأي العام على المرشحة كلينتون، ولم تؤد تلك الأفكار إلى نتيجة سلبية ضده، كما كان يخشى بعض مناصريه. وكان لافتاً معارضة ساندرز الصريحة لأي تدخل أميركي في سورية. وهو لم يقلّد غيره في التعهّد بحماية بلاده من الأخطار الخارجية، بل تعهد بحماية الجنود الأميركيين من أي مخاطرة خارجية ومنع أي تدخّلات من هذا القبيل.
ومن الواضح، تبعاً لذلك، أن مزاج الناخبين الأميركيين لم يعد يرحب بالحلول الوسط أو بالمناطق الرمادية في التوجّهات السياسية للمرشحين، بل يُفضّل أن يرى مرشحين أكثر وضوحاً أيديولوجياً، سواء في تبني الأفكار اليسارية، كما هو الحال مع ساندرز، أو في تبني الأفكار الأكثر يمينية، كما هو الحال مع المرشحين الجمهوريين المتشدّدين الذين تفوقوا على اعتدال زميلهم مرشح التيار التقليدي في الحزب الجمهوري جيب بوش. وكان بوش الذي يتصدر استطلاعات الرأي العام في حزبه، قد سخر من مناظرة الحزب الديمقراطي قبل بدئها، قائلاً "إن المشاهدين سيغُطون في نوم سريع خلال المناظرة".
اقرأ أيضاً: اليساري ساندرز التحدي على طريق هيلاري
وحاولت كلينتون على هامش المناظرة إقناع الرأي العام أنها الأكثر مصداقية وقدرة على إيصال الحزب الديمقراطي إلى ولاية رئاسية ثالثة على التوالي، وهو ما سيُشكّل سابقة منذ الحرب العالمية الثانية إذا ما نجح الحزب الديمقراطي في ذلك.
وكما هو الحال مع جيم ويب في خلفيته الجمهورية السابقة، بل وبعض آرائه الحالية، فإن المرشح الآخر، لينكولن تشافي، يؤخذ عليه أنه من المتحوّلين سياسياً، إذ انتقل إلى الحزب الديمقراطي من الحزب الجمهوري بسبب معارضته الحرب في العراق، وهو سيناتور وحاكم سابق لولاية رود آيلاند. ويحاول في حملته تذكير الناخبين بدور هيلاري كلينتون في التصويت لصالح الرئيس السابق، جورج بوش، لغزو العراق. ويتفق تشافي مع ساندرز في معارضتهما "للتدخلات الخارجية".
وفي الوقت الذي تُشكّل فيه الخلفية الجمهورية لتشافي وجيم ويب نقطة ضعف، فإنها قد ترفع من حظوظهما في المنافسة على منصب نائب الرئيس، لأن الحاجة لهما ستكون كبيرة في هذا الموقع إذا ما كان الرئيس المرشح عن الحزب الديمقراطي من المنتمين للتيار الليبرالي اليساري. ويتمتع ويب على وجه التحديد بقبول لدى المؤسسة العسكرية، فضلاً عن أن انتماءه لولاية جنوبية هي فرجينيا يزيد من حظوظه في خوض الانتخابات كنائب للرئيس مع الفائز من الحزب الديمقراطي أيّاً كان.
أما الحاكم السابق لولاية ميرلاند مارتن أومالي ذو الأصل الإيرلندي، فهو الأصغر سناً بين المرشحين، إذ وُلد عام 1963 في العاصمة الأميركية واشنطن، ولكنّ أبرز نقاط ضعفه انتماؤه للأقلية الكاثوليكية، إذ كان أول وآخر رئيس كاثوليكي للولايات المتحدة، هو الراحل جون كندي، وفشل المرشح السابق، جون كيري، أمام جورج بوش في إحدى جولات المنافسة في الماضي بسبب عدم انتمائه للغالبية البروتستانتية، حسب تحليلات في تلك الفترة.
ولم تشهد المناظرة هجمات متبادلة كبيرة بين المرشحين الديمقراطيين بالمقارنة مع ما جرى في مناظرات الحزب الجمهوري، لكن وقائع المناظرة لم تكن مملة مثلما توقّع خصوم الحزب الديمقراطي، بل أبدى المشاركون فيها مهارات سياسية في تناول القضايا المختلف عليها، وتبادل الاحترام في آن واحد. وكان من أبرز المواقف اللافتة خلال المناظرة، الغضب الذي أبداه ساندرز عند التطرق للرسائل الإلكترونية لهيلاري كلينتون، إذ أعلن أن الشعب الأميركي قد سئم من الإفراط في الحديث عن هذه المسألة.
وأبدت كلينتون ارتياحاً لهذا الموقف من منافسها ساندرز، بتزكية كلامه. واعتبر بعض المعلقين أن هذا الموقف من ساندرز، وعلى الرغم من أنه يصب في صالح وجهة نظر منافسته كلينتون، إلا أن تلقائيته جعلت المتابعين يخرجون باستنتاج أن الرجل مدفوع بالمصلحة العليا للبلاد، ولا يهمه أن تستفيد هيلاري كلينتون من موقفه أو لا تستفيد.
ومن المقرر أن تشهد المراحل المقبلة من الانتخابات مناظرات ديمقراطية إضافية، لكن السخونة الحقيقية سوف تكون عندما يحين موعد المناظرة بين المرشح الفائز من الحزب الديمقراطي ضد المرشح الفائز من الحزب الجمهوري. ومن غير المستبعد أن يتقدم أي مرشح آخر يرفضه حزبه كمرشح ثالث مستقل، خصوصاً من بين القادرين مالياً على ذلك من أمثال رجل الأعمال الملياردير دونالد ترامب.
اقرأ أيضاً: أوباما يُبارك ترشح بايدن بمواجهة هيلاري: بوادر انقسام "ديمقراطي"