ولفت البيان إلى سعي حركة النهضة إلى "وضع برنامج مع شركائها يتضمن التوجهات الكبرى لعمل الحكومة والإجراءات في الآماد العاجلة والمتوسطة، للرفع من فاعلية المؤسسات الحكومية، وتحسين الخدمات العمومية، وتفعيل المشاريع المعطّلة وإنفاذ القوانين".
وجرى التوصل إلى هذا القرار بعد أخذ وردّ استمرا طوال الأيام الماضية، وتباينت خلالها الآراء والمواقف بين الكوادر العليا والوسطى للحركة، لينتهي القرار إلى أن يكون رئيس الحكومة منها، وأن تتولى إدارة المرحلة القادمة بالشراكة مع من يقبل بهذا الشرط، في محاولة منها لإنهاء حالة التردد داخلها، وإشعار بقية الأطراف الحزبية والاجتماعية بأنها تنوي مواصلة البقاء داخل السلطة، وأن يتولى قادتها وضع الترتيبات الكبيرة والصغيرة مع من يريد الاشتراك في حكومتها الثالثة منذ قيام الثورة.
هكذا يتبين أن الحركة رفضت، حتى الآن، الدعوات التي نصحتها باختيار شخصية من خارجها تكون مقبولة من معظم القوى السياسية، وأقدر على تشكيل حكومة مستقرة ومدعومة من أغلبية واسعة في البرلمان.
يُعَدّ هذا الاختيار مجازفة من النهضة، لأن مسؤوليتها هذه المرة ستكون مباشرة على كل ما سيحدث في البلاد، في وضع شبيه بما حصل عندما قادت الحركة حكومة الترويكا الأولى والثانية، وانتهت تلك التجربة بإسقاط الحكومة وقيام حكومة تكنوقراط.
وكانت حالة البلاد في تلك الفترة أفضل مما هي عليه الآن، حيث استفحلت الآن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية وازدادت سوءاً مقارنة بما كانت عليه، إذ تشكو الميزانية الجديدة لسنة 2020 عجزاً فادحاً يستوجب تعبئة قروض بقيمة 11,248 مليون دينار (م. د)، منها 2400 م. د اقتراض داخلي، والبقية تستدرك من خلال اللجوء إلى الاقتراض الخارجي.
كذلك يتوقع أن يبلغ حجم الدين العمومي 74 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي مع نهاية السنة القادمة، وهي أعلى نسبة تداين تبلغها تونس منذ حصولها على الاستقلال. وتدخل تونس المرحلة الأكثر صعوبة في التفاوض مع مؤسسات التمويل الدولية حول الإصلاحات الضرورية التي تعهدت حكومة الشاهد بالقيام بها، والتي تعتبرها هذه المؤسسات أساساً للاستمرار في إقراض البلاد ومواصلة تقديم الدعم لها.
كذلك فإن نسبة البطالة، خاصة في صفوف الشباب، لم تنخفض إلا بنسبة بسيطة جداً، ما جعل حالة الاحتقان متواصلة بعد انقضاء ثماني سنوات من الثورة.
وفي هذا المنحدر الصعب قررت حركة النهضة تحمّل المسؤولية السياسية بتعيين رئيس منها للحكومة القادمة. وقد عينت عدداً من مسؤوليها حتى تختار من بينهم من تراه مؤهلاً لذلك، ووضعت على رأس قائمة المرشحين لتولي هذا المنصب الحساس الشيخ راشد الغنوشي، الذي عبّر عن رغبته في ذلك.
وقد تواتر خلال اليوم الأول من مناقشات مجلس الشورى عدد واسع من أعضاء الحركة الذين تحمسوا لمقترح ترشيح الغنوشي، حتى كاد أن يتحقق إجماع حوله لولا تدخل البعض الذين انتقدوا الفكرة وحذروا من خطورتها وانعكاسها السلبي على رئيس الحركة من جهة، وعلى مستقبل النهضة من جهة أخرى.
من بين هؤلاء وزير حقوق الإنسان السابق سمير ديلو، الذي تحدث بصراحة عن هذه المسألة.
وعلم "العربي الجديد" أنه وجه خطابه مباشرة إلى الغنوشي بخطاب فيه الكثير من الاحترام، قائلا له: "الذين يدفعونك في هذا الطريق ليسوا ناصحين لك"، وحذّره من غضب المواطنين في حال فشَل الحكومة الجديدة في الوفاء بوعودها.
أما لطفي زيتون، الذي استقال من قبل من مهمة المستشار السياسي، فقد دعا من جهته حركة النهضة إلى العودة إلى موقع الوسط بعد أن مالت خلال الحملة الانتخابية إلى "أقصى اليمين"، حسب تعبيره.
وشدد زيتون على أن يكون رئيس الحكومة القادمة "شخصية سياسية كبيرة مقبولة داخلياً وخارجياً، ينخرط في إعادة جمع التونسيين في مشروع وطني جامع". في حينٍ يعتقد فيه قيادي بارز في الجهاز التنفيذي للحركة أن الرأي الغالب داخل الشورى كان ميالاً إلى تولي الغنوشي رئاسة الحكومة، لكن لا يمنع ذلك القول إن الحركة إذا توصلت مع شركائها إلى رأي يحقق لها جزءاً مهماً من أهدافها، فإن الكثيرين قد يقبلون بمراجعة موضوع رئاسة الحكومة بما يخدم البلاد ويدعم استقرارها.
هذا الجدل الذي حصل بين الأعضاء جعل مجلس الشورى يتريث في الكشف عن هوية رئيس الحكومة المقبل، تاركاً ذلك إلى سياق المفاوضات التي ستنطلق رسمياً خلال الأسبوع القادم مع العديد من الأحزاب، وأيضاً المنظمات الوطنية الكبرى، مثل الاتحاد العام التونسي للشغل واتحاد الصناعة والتجارة.
وحتى تدور هذه المفاوضات "بشكل مسؤول"، شُكِّلَت لجنة يرأسها الشيخ الغنوشي بنفسه.
لن تكون المفاوضات سهلة، لهذا استعدّ لها كل من حزب التيار الديمقراطي وحركة الشعب، التي عقدت مجلساً وطنياً في هذا الغرض، وتناولت بالخصوص خيار المشاركة في الحكم أو المقاطعة وعدم الدخول في تحالف مع النهضة.
وستكون هناك ضغوط واقتراحات في سياقات مختلفة ومتضاربة، لكن المناخ السائد حالياً في تونس يفرض على الجميع القيام بتنازلات متبادلة للحيلولة دون اللجوء إلى انتخابات برلمانية سابقة لأوانها.