03 اغسطس 2022
هل يعود الدور مجدّداً إلى العسكر؟
هل هي الثورات تعود مجدّداً، أم أن العسكر يتقدم الواجهة لاحتوائها والإجهاض عليها؟ ما يحدث منذ أسابيع يثير الاهتمام، ويدعو إلى الحذر في الوقت نفسه. نزول الملايين إلى الشارع في السودان والجزائر، بعد ثماني سنوات على انحسار "الربيع العربي"، يدفع إلى الاعتقاد أن هذا الربيع عائد من البوابة العربية الأفريقية، التي بدت إلى حين وكأنها في ثبات عميق. في نهاية ديسمبر/ كانون الأول 2010، انتفض الشارع التونسي في أول انتفاضة من أجل الحرية والكرامة، وأجبر زين العابدين بن علي على مغادرة الحكم بعد 23 سنة فيه، وراح الحجر يتدحرج، فانتقلت العدوى إلى الشارع المصري الذي أطاح، في 11 فبراير/ شباط 2011 حسني مبارك بعد ثلاثين سنة، ثم جاء دور معمر القذافي في أواخرالعام نفسه، بعدما حكم ليبيا أكثر من أربعين سنة من السلطة المطلقة. وفي شهر فبراير/ شباط عينه من تلك السنة، انفجر الحراك الشعبي في اليمن، ودخل منعرجات متعدّدة، إلى أن غرق في حروب، وتحولت الأزمة إلى صراع إقليمي مفتوح. وأخيراً، كانت الثورة السورية التي بدأت ناصعة سلمية، إلى أن أغرقها النظام البعثي الأسدي في الدم، وتحولت إلى صراع إقليمي ودولي ما زال مفتوحاً. وقد سبق كل هذه الثورات ومهد لها "انتفاضة الاستقلال" عام 2005 في لبنان، التي أجبرت الجيش السوري على الخروج من لبنان.
بعد هذا المخاض، أسدل الستار على ما اصطلح على تسميته "الربيع العربي"، وبدا وكأن الواقع العربي يعود إلى الوراء. إذ باستثناء تونس التي تمكّنت من الحفاظ على مكتسبات الثورة، وهي تتلمس طريقها إلى الديموقراطية، راحت الأمور تسلك منعرجاتٍ بدا وكأن الهدف منها إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، إلى أسوأ مما كانت عليه، إلى زمن العسكر الذين سبق أن قبضوا على زمام السلطة في الخمسينيات والستينيات، ملتحفين رداء القومية والتقدمية، ورافعين شعار تحرير فلسطين، ثم تحولوا رويداً إلى حكام مستبدين بلباس مدني، بدءاً من حافظ الأسد مروراً بحسني مبارك ومعمر القذافي وعلي عبد الله صالح، وليس انتهاءً بزين العابدين. واليوم يتقدّم العسكر مجدّداً، بحجّة إنقاذ مصر من "الإخوان المسلمين"، رافعاً لواء حماية الديموقراطية ومحاربة الإرهاب والأصولية، بدل شعارات العروبة والتقدّمية والتحرير،
ويمارس القمع والبطش والتضييق على الحريات وحتى التجويع، حكم أين منه حكم مبارك.. وهذا عبد الفتاح السيسي يؤبد حكمه إلى عام 2030. ويتخلص الليبيون من سلطة القذافي، ويتفرّغون للقتال والاقتتال في ما بينهم، من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى العاصمة طرابلس؛ عشائر وقبائل ومليشيات تتنازع منذ ثماني سنوات البشر والنفط، ومافيات لكل أنواع التجارة والنفوذ. ثم يتقدّم المنقذ، وهو أيضاً ومجدداً العسكر بشخص اللواء خليفة حفتر الذي يزحف من الشرق، رافعاً لواء الأمن والنظام والسلطة الواحدة الموحدة، يريد السلطة لنفسه، ولا أحد سواه. وهو يلاقي دعماً لافتاً، عربياً ليس فقط من زميله السيسي، وغربياً أوروبياً من فرنسا ماكرون، انتهاءً بروسيا بوتين.
وفي اليمن، انتقلت المعركة من خلع عسكري آخر هو عبد الله صالح، الذي مكث في الحكم 34 سنة، واضطر في النهاية إلى الاستقالة، إلى نزاع لا علاقة مباشرة له بانتفاضة اليمنيين وطموحاتهم، لأن اللعبة أضحت خليجية إقليمية ودولية، حوّلها الكبار إلى حرب قذرة، يدفع ثمنها الذين انتفضوا عام 2011 من أجل كرامتهم وحريتهم ولقمة عيشهم. أما سورية فهي كل الحكاية، فقد انتقل الحكم بالوراثة من العسكري الفريق حافظ الأسد الذي حكم ثلاثين سنة إلى ابنه بشار الذي أدى به تعطشه للسلطة إلى تدمير سورية، وقتل أكثر من 400 ألف سوري، وتشريد خمسة ملايين، ونزوح أكثر من ستة ملايين، ومن ثم تسليم سورية لخمسة جيوش أجنبية، تتنازع الأرض والنفوذ شمالاً وجنوباً وغرباً. وإذا استمر صراع المصالح فوق رؤوس السوريين، وعلى حسابهم، فربما يتمكّن بشار الأسد من البقاء على الكرسيّ أكثر من أبيه، وإن فقط في دمشق ومحيطها، حتى لو أدى ذلك إلى تقسيم سورية.
غير أن اللافت هو أن الجميع، من هذا المعسكر أو ذاك، يعمل على ترجيح خيار العسكر في السلطة، وإنما بلباس مدني. وقد بدا واضحاً هذا الأمر مع اندلاع انتفاضتي السودان والجزائر، إذ سارع الجيش في كل من البلدين إلى احتواء الشارع، من خلال مواكبة التظاهرات، وتوفير الحماية لها، في وجه السلطة السياسية، لكي يتمكّن بعد خلع الرئيس من تسويق توليفة حلٍّ تراعي مطالب المنتفضين، وتمكّنه من الاحتفاظ بالسلطة. وهذا ما حصل فعلاً في الجزائر التي يحكمها فعلياً مجموعة جنرالات، اضطروا للتخلي عن الرئيس المريض عبد العزيز بوتفليقة، على إثر اشتداد ضغط الشارع، ورفضه التخلي عن مطلب رحيله. وقد فتح انسحاب بوتفليقة من الساحة باب الاحتمالات على مصراعيه، فحاول العسكر أن يبقى ممسكاً بزمام السلطة، عبر تمرير حل انتقالي برئاسة رئيس الأركان، ولكن الشارع رفض القبول بأيّ رجل من رجالات الحكم الذين كانوا يحيطون ببوتفليقة، وتقرّر الذهاب إلى انتخابات رئاسية في بداية يوليو/ تموز المقبل، فهل تشكل الانتخابات فرصة حقيقية لمنع عودة أحد الجنرالات إلى السلطة باللباس المدني، وعبر صناديق الاقتراع؟
الأمر نفسه يمكن أن يقال عن السودان، الذي لم يعرف منذ نصف قرن غير حكم العسكر
وثلاث انقلابات عسكرية، آخرها انقلاب عمر البشير عام 1989. وليست الانتفاضة الحالية الأولى على البشير، ولكنها هذه المرة تمكّنت من إزاحته، على الرغم من مسارعة العسكر إلى احتواء حركة الشارع، والتحايل على المتظاهرين من أجل إنقاذ السلطة، عبر إجبار البشير على التنحي، وتشكيل مجلس عسكري، يرأسه نائب البشير وزير الدفاع، الفريق عوض بن عوف الذي اعتذر لاحقاً، وحلّ مكانه فريق آخر، هو عبد الفتاح البرهان الذي بادر إلى إطلاق سراح جميع الضباط الذين حموا المتظاهرين، وأبدى استعداده لمحاورة المتظاهرين الذين يصرّون على تنحّي جميع رموز السلطة. ربما ستكون حظوظ العملية الديموقراطية في الجزائر متقدّمة، وأفضل من مثيلتها في السودان.
الصورة تبدو إلى الآن أنها تميل مجدّداً لصالح العسكر، الذي يمسك بزمام اللعبة في الجزائر وفي السودان، فيما يزحف الجنرال الليبي خليفة حفتر، للسيطرة على الوضع. أما السيسي فيمسك الحكم منذ ست سنوات، ويعزز سلطته، وقد نال في زيارته أخيراً واشنطن مباركة الرئيس الأميركي دونالد ترامب. ويقابل ذلك إدراج الولايات المتحدة في "الحرس الثوري الإيراني" على لائحة المنظمات الإرهابية، والتحضير لعقوبات جديدة خانقة على إيران. يضاف إليه فوز زعيم "الليكود" في إسرائيل نتنياهو في انتخابات الكنيست أخيراً، بدعم مباشر من ترامب (الجولان إسرائيلي) وبوتين (رفات الجندي الإسرائيلي المفقود منذ 1982)... هل سيؤدي هذا المخاض إلى تغيرات جذرية، أم أننا في المحصلة أمام لوحة يحلّ فيها عسكر محلّ عسكر، من دون أن يطرأ أيّ تعديل جوهري على المشهد؟
بعد هذا المخاض، أسدل الستار على ما اصطلح على تسميته "الربيع العربي"، وبدا وكأن الواقع العربي يعود إلى الوراء. إذ باستثناء تونس التي تمكّنت من الحفاظ على مكتسبات الثورة، وهي تتلمس طريقها إلى الديموقراطية، راحت الأمور تسلك منعرجاتٍ بدا وكأن الهدف منها إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، إلى أسوأ مما كانت عليه، إلى زمن العسكر الذين سبق أن قبضوا على زمام السلطة في الخمسينيات والستينيات، ملتحفين رداء القومية والتقدمية، ورافعين شعار تحرير فلسطين، ثم تحولوا رويداً إلى حكام مستبدين بلباس مدني، بدءاً من حافظ الأسد مروراً بحسني مبارك ومعمر القذافي وعلي عبد الله صالح، وليس انتهاءً بزين العابدين. واليوم يتقدّم العسكر مجدّداً، بحجّة إنقاذ مصر من "الإخوان المسلمين"، رافعاً لواء حماية الديموقراطية ومحاربة الإرهاب والأصولية، بدل شعارات العروبة والتقدّمية والتحرير،
وفي اليمن، انتقلت المعركة من خلع عسكري آخر هو عبد الله صالح، الذي مكث في الحكم 34 سنة، واضطر في النهاية إلى الاستقالة، إلى نزاع لا علاقة مباشرة له بانتفاضة اليمنيين وطموحاتهم، لأن اللعبة أضحت خليجية إقليمية ودولية، حوّلها الكبار إلى حرب قذرة، يدفع ثمنها الذين انتفضوا عام 2011 من أجل كرامتهم وحريتهم ولقمة عيشهم. أما سورية فهي كل الحكاية، فقد انتقل الحكم بالوراثة من العسكري الفريق حافظ الأسد الذي حكم ثلاثين سنة إلى ابنه بشار الذي أدى به تعطشه للسلطة إلى تدمير سورية، وقتل أكثر من 400 ألف سوري، وتشريد خمسة ملايين، ونزوح أكثر من ستة ملايين، ومن ثم تسليم سورية لخمسة جيوش أجنبية، تتنازع الأرض والنفوذ شمالاً وجنوباً وغرباً. وإذا استمر صراع المصالح فوق رؤوس السوريين، وعلى حسابهم، فربما يتمكّن بشار الأسد من البقاء على الكرسيّ أكثر من أبيه، وإن فقط في دمشق ومحيطها، حتى لو أدى ذلك إلى تقسيم سورية.
غير أن اللافت هو أن الجميع، من هذا المعسكر أو ذاك، يعمل على ترجيح خيار العسكر في السلطة، وإنما بلباس مدني. وقد بدا واضحاً هذا الأمر مع اندلاع انتفاضتي السودان والجزائر، إذ سارع الجيش في كل من البلدين إلى احتواء الشارع، من خلال مواكبة التظاهرات، وتوفير الحماية لها، في وجه السلطة السياسية، لكي يتمكّن بعد خلع الرئيس من تسويق توليفة حلٍّ تراعي مطالب المنتفضين، وتمكّنه من الاحتفاظ بالسلطة. وهذا ما حصل فعلاً في الجزائر التي يحكمها فعلياً مجموعة جنرالات، اضطروا للتخلي عن الرئيس المريض عبد العزيز بوتفليقة، على إثر اشتداد ضغط الشارع، ورفضه التخلي عن مطلب رحيله. وقد فتح انسحاب بوتفليقة من الساحة باب الاحتمالات على مصراعيه، فحاول العسكر أن يبقى ممسكاً بزمام السلطة، عبر تمرير حل انتقالي برئاسة رئيس الأركان، ولكن الشارع رفض القبول بأيّ رجل من رجالات الحكم الذين كانوا يحيطون ببوتفليقة، وتقرّر الذهاب إلى انتخابات رئاسية في بداية يوليو/ تموز المقبل، فهل تشكل الانتخابات فرصة حقيقية لمنع عودة أحد الجنرالات إلى السلطة باللباس المدني، وعبر صناديق الاقتراع؟
الأمر نفسه يمكن أن يقال عن السودان، الذي لم يعرف منذ نصف قرن غير حكم العسكر
الصورة تبدو إلى الآن أنها تميل مجدّداً لصالح العسكر، الذي يمسك بزمام اللعبة في الجزائر وفي السودان، فيما يزحف الجنرال الليبي خليفة حفتر، للسيطرة على الوضع. أما السيسي فيمسك الحكم منذ ست سنوات، ويعزز سلطته، وقد نال في زيارته أخيراً واشنطن مباركة الرئيس الأميركي دونالد ترامب. ويقابل ذلك إدراج الولايات المتحدة في "الحرس الثوري الإيراني" على لائحة المنظمات الإرهابية، والتحضير لعقوبات جديدة خانقة على إيران. يضاف إليه فوز زعيم "الليكود" في إسرائيل نتنياهو في انتخابات الكنيست أخيراً، بدعم مباشر من ترامب (الجولان إسرائيلي) وبوتين (رفات الجندي الإسرائيلي المفقود منذ 1982)... هل سيؤدي هذا المخاض إلى تغيرات جذرية، أم أننا في المحصلة أمام لوحة يحلّ فيها عسكر محلّ عسكر، من دون أن يطرأ أيّ تعديل جوهري على المشهد؟