08 نوفمبر 2024
هل يندثر "الإخوان المسلمون"؟
مثلت جماعة الإخوان المسلمين واحدةً من أبرز ظواهر القرن العشرين، وقرابة الخُمْسِ الأول من القرن الحادي والعشرين، عربيا. وعلى مدى تسعين عاما من عمرها، منذ تأسست عام 1928، على يد حسن البنا، تركت الجماعة بصماتٍ لا تكاد تخفى على أحد في الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية العربية، وإنْ بنسبٍ متفاوتة بين دولة وأخرى. ولعل عامي 2011 و2012 كانا نقطة التركيز الأكثف لقوة الجماعة ونفوذها، إذ دفعت موجة الثورات التي اجتاحت عددا من الدول العربية حينها الإخوان المسلمين، والتيارات المحسوبة عليهم، أو القريبة منهم، إلى الواجهة، كما في مصر وتونس والمغرب. كما كان واضحا أن ثقل الجماعة محرّك أساس للثورات والحراكات في سورية والأردن وليبيا واليمن وغيرها. لقد بدا حينها أن الإخوان المسلمين يعيشون عصرهم الذهبي، وأنهم، أخيرا، بدأوا حصاد عقود طويلة من العمل والاستثمار، لكن الثورات العربية المضادة، والرّدة عن آمال التغيير الديمقراطي في المنطقة، والتي توّجت بالانقلاب العسكري الدموي في مصر على الرئيس محمد مرسي، أحد قيادات جماعة الإخوان المسلمين، عام 2013، وضعت الجماعة أمام محنةٍ من طراز جديد لم تألفه من قبل. اعتادت الجماعة في عقودها الطويلة على القمع الشرس والبطش الدموي، كما جرى في أربعينيات القرن وخمسينياته وستينياته في مصر، وكما جرى مطلع ثمانينيات القرن الماضي في سورية، وأواخر الثمانينيات ومطلع التسعينيات من القرن الماضي في تونس، غير أنها لم تعش قمعا ومطاردة وتضييقا، في أغلب الدول العربية، في وقت واحد، وبقليلٍ من الحلفاء كما اليوم.
قد يهيأ لبعضهم أن أزمة الإخوان مرتبطةٌ بحملات جُلِّ النظام الرسمي العربي ضدهم في السنوات الأخيرة، لكن المسألة أعمق من ذلك بكثير. صحيحٌ أن استهدافهم من النظام الرسمي العربي المتحالف مع نخب إقصائية، وإنْ زعمت العلمانية والتقدمية والليبرالية والإسلامية، قد عمقت من أزمات الإخوان وَضَعْضَعَتْ بناهم وهياكلهم، إلا أنه لا يمكن حصر انحسار المَدِّ الإخواني في الفضاء العربي فيها. ما تعيشه الجماعة اليوم هو واقع جديد، بديناميكيات جديدة، لم تعرفهما حتى في ذروة فترة البطش الناصري في خمسينيات القرن الماضي وستينياته. حينها تماسك البناء التنظيمي للجماعة، على الرغم من الطَرَقاتِ الشديدة عليه، والسبب أن المدرسة الإخوانية وفكرها لم يكونا محل تشكيك من أفراد الجماعة، بل ازدادا رسوخا في وَعْيِّ من بقي متمسّكاً بهما. الوضع اليوم اختلف، وهو للمفارقة لم يكن نتاجا للثورات المضادة عام 2013، وإن كانت قد عمّقتها، بقدر ما كان نتاجا، بالدرجة الأولى، للثورات العربية نفسها، والتي صَدَّرَتِ الجماعة.
كما كانت الثورات العربية، في جانب منها، ثورةً على الأبوية والسلطوية والركود في الفضاء العربي، فإنها مثلت فرصة، كذلك، لأبناء الإخوان المسلمين للثورة على الأبويّة والركود داخل الجماعة، بل وكذلك فرصة لتحدي مُسَلَّماتٍ في فكرها. من ذلك، مثالاً، لا حصرا، تمييز مسارات الدعوي والسياسي (كثيرون من أبناء الجماعة يصل إلى حدِّ المطالبة بالفصل بين الديني والسياسي، وهو المبدأ الذي كان يُظن أنه راسخٌ في فكر الإخوان من حيث ارتباطهما بمفهوم شمولية الإسلام)، والموقف من الديمقراطية ومقاربة نظم الحكم، كالدولة المدنية بديلا عن الدولة الإسلامية (المُسْلَّمَةُ الثانية التي كان يظن أنها ثابتٌ في فكر الإخوان)، والمفاهيم الستالينية للتنظيم الصارم، وتوارث الأجيال داخل الجماعة.
حينها، وجدت القيادة الرسمية والتاريخية للإخوان المسلمين نفسها أمام ما يمكن وصفه تمرّدا فكريا وتنظيميا داخليا، فكما شَبَّت شعوب عربية كثيرة عن الطوق، شَبَّ كثيرون من أبناء الجماعة عن الطوق كذلك. ولم يعد التنظيم الصلب والصارم قادرا على ضبط الآراء والتيارات الفكرية المختلفة التي يموج بها جسد التنظيم، وكان من نتائج السعي إلى كَبْتِ الأصوات المخالفة أن تفسخ التنظيم، كما في مصر والأردن، مع ضرورة التأكيد أن أيدي الأنظمة الرسمية غير نظيفة هنا أبدا، فهي من عَبَّدَتِ الأرضية لمثل ذلك التفسخ، سواء قمعا، كما في مصر، أم تخطيطا، كما في الأردن. ولكن الحقيقة تبقى أن أزمة الإخوان داخلية بالدرجة الأولى، ثمَّ هي خارجية. لقد فشل تنظيما الإخوان في مصر والأردن في التكيّف مع المتغيرات، الداخلية والمحيطة، على عكس تيارين قريبين منهما، هما: حزب العدالة والتنمية في المغرب، وحركة النهضة في تونس. مع ضرورة التنبيه هنا إلى الفوارق بين التجارب الأربع، ومع ضرورة التشديد، كذلك، على أن الأخيريْن يواجهان، أيضا، أزماتٍ داخلية، وضغوطا خارجية، وإنْ بشكل أقل.
وصل الإخوان اليوم إلى نقطة جديدة في مسار تراجعهم التنظيمي والشعبي. تَضافُرُ عامل الركود والخلافات الداخلية والتفسّخ الذي تعاني منه الجماعة جرّاء ذلك، مع عامل الضغط والاستهداف الخارجي، جعل الجماعة تنكفئ، إلى حد كبير، على ذاتها. لقد أضحت الجماعة أسيرة صراعاتها التنظيمية الداخلية، وكثيرون من قادتها مشغولون بالدسائس والمكر البَيْنِيِّ، لإحكام السيطرة وتهميش الخصوم التنظيميين وتهشيمهم. في الوقت نفسه، تجد الجماعة نفسها مستغرقةً في الحفاظ على الذات أمام حملات القمع والبطش. الأخطر أن الجماعة اليوم تَشيخُ، فهي لم تعد تنظم بشكل فعال في صفوفها لتجديد شبابها. أما ثالثة الأثافي بالنسبة للإخوان، فتتمثل في أن كثيرين من شبابهم، بل وحتى بعض قادتهم التاريخيين، ما عاد يعنيهم البقاء في صفوف الجماعة، مع أنهم كانوا يقاتلون، إلى وقت قريب، للحفاظ على عضويتهم فيها. كان التنظيم عقودا طويلة بمثابة الماء للسمك، لكنك تجد اليوم عشرات ومئات من أبنائه، بما في ذلك قيادات فيه، يخرجون منه غير آسفين عليه. هذا تطور خطير، لكنه لا يقرع أجراس الإنذار عند القيادات التنظيمية المتحكّمة بمفاصل الجماعة، ذلك أن معظم القيادات التنظيمية المتبقية ليست
من الكفاءات الفكرية، وبالتالي لا تستوعب خطورة ما يجري. المهم بالنسبة لهم انتصارات تنظيمية وَهْمِيَّةٍ يحققونها عبر إقصاء خصومهم، بذريعة "تطهير الصف" من المتساقطين والضعفاء. وفي المقابل، ثمّة متمردون على الجماعة لم يأتوا بأحسن منها، بل مارسوا الإقصاء والركود نفسيهما داخل الأطر الجديدة التي شكلوها في انشقاقات عن الجماعة الأم.
الإخوان المسلمون، وهم على أبواب مئويتهم الأولى، يقفون على عتبة الاندثار. وهذا ليس قدرا محتوما، لكنه قد يكون الخيار الأكثر رجوحا ضمن المعطيات الحالية. أي فكر لا يتجدّد سيندثر. وأي تنظيمٍ يعجز عن استيعاب تحديات واقعه سيندثر كذلك. هذا لا يعني أن الإخوان سينتهون تنظيما وفكرا بشكل تام، لكنهم سيتحولون، إن بقوا على ما هم عليه، إلى جماعةٍ صغيرةٍ محدودة الأثر تعيش على ذكريات الماضي ومخلفاته. لم يعد من المقبول، ولا من المعقول، أن تصر قيادات تنظيمية ترى في نفسها "حرّاس المعبد" على محاولة كَبْتِ النقاش بين جدرانه وخارجها. نحن في زمن الفضاءات المفتوحة، والحقبة الستالينية وَلتْ بأدواتها البالية، وليكن لهم عبرة في عجز الأنظمة العربية عن قمع أصوات شعوبها، على الرغم من كل أدوات البطش التي يوظفونها لتحقيق هذا المراد المستحيل.
قد يهيأ لبعضهم أن أزمة الإخوان مرتبطةٌ بحملات جُلِّ النظام الرسمي العربي ضدهم في السنوات الأخيرة، لكن المسألة أعمق من ذلك بكثير. صحيحٌ أن استهدافهم من النظام الرسمي العربي المتحالف مع نخب إقصائية، وإنْ زعمت العلمانية والتقدمية والليبرالية والإسلامية، قد عمقت من أزمات الإخوان وَضَعْضَعَتْ بناهم وهياكلهم، إلا أنه لا يمكن حصر انحسار المَدِّ الإخواني في الفضاء العربي فيها. ما تعيشه الجماعة اليوم هو واقع جديد، بديناميكيات جديدة، لم تعرفهما حتى في ذروة فترة البطش الناصري في خمسينيات القرن الماضي وستينياته. حينها تماسك البناء التنظيمي للجماعة، على الرغم من الطَرَقاتِ الشديدة عليه، والسبب أن المدرسة الإخوانية وفكرها لم يكونا محل تشكيك من أفراد الجماعة، بل ازدادا رسوخا في وَعْيِّ من بقي متمسّكاً بهما. الوضع اليوم اختلف، وهو للمفارقة لم يكن نتاجا للثورات المضادة عام 2013، وإن كانت قد عمّقتها، بقدر ما كان نتاجا، بالدرجة الأولى، للثورات العربية نفسها، والتي صَدَّرَتِ الجماعة.
كما كانت الثورات العربية، في جانب منها، ثورةً على الأبوية والسلطوية والركود في الفضاء العربي، فإنها مثلت فرصة، كذلك، لأبناء الإخوان المسلمين للثورة على الأبويّة والركود داخل الجماعة، بل وكذلك فرصة لتحدي مُسَلَّماتٍ في فكرها. من ذلك، مثالاً، لا حصرا، تمييز مسارات الدعوي والسياسي (كثيرون من أبناء الجماعة يصل إلى حدِّ المطالبة بالفصل بين الديني والسياسي، وهو المبدأ الذي كان يُظن أنه راسخٌ في فكر الإخوان من حيث ارتباطهما بمفهوم شمولية الإسلام)، والموقف من الديمقراطية ومقاربة نظم الحكم، كالدولة المدنية بديلا عن الدولة الإسلامية (المُسْلَّمَةُ الثانية التي كان يظن أنها ثابتٌ في فكر الإخوان)، والمفاهيم الستالينية للتنظيم الصارم، وتوارث الأجيال داخل الجماعة.
حينها، وجدت القيادة الرسمية والتاريخية للإخوان المسلمين نفسها أمام ما يمكن وصفه تمرّدا فكريا وتنظيميا داخليا، فكما شَبَّت شعوب عربية كثيرة عن الطوق، شَبَّ كثيرون من أبناء الجماعة عن الطوق كذلك. ولم يعد التنظيم الصلب والصارم قادرا على ضبط الآراء والتيارات الفكرية المختلفة التي يموج بها جسد التنظيم، وكان من نتائج السعي إلى كَبْتِ الأصوات المخالفة أن تفسخ التنظيم، كما في مصر والأردن، مع ضرورة التأكيد أن أيدي الأنظمة الرسمية غير نظيفة هنا أبدا، فهي من عَبَّدَتِ الأرضية لمثل ذلك التفسخ، سواء قمعا، كما في مصر، أم تخطيطا، كما في الأردن. ولكن الحقيقة تبقى أن أزمة الإخوان داخلية بالدرجة الأولى، ثمَّ هي خارجية. لقد فشل تنظيما الإخوان في مصر والأردن في التكيّف مع المتغيرات، الداخلية والمحيطة، على عكس تيارين قريبين منهما، هما: حزب العدالة والتنمية في المغرب، وحركة النهضة في تونس. مع ضرورة التنبيه هنا إلى الفوارق بين التجارب الأربع، ومع ضرورة التشديد، كذلك، على أن الأخيريْن يواجهان، أيضا، أزماتٍ داخلية، وضغوطا خارجية، وإنْ بشكل أقل.
وصل الإخوان اليوم إلى نقطة جديدة في مسار تراجعهم التنظيمي والشعبي. تَضافُرُ عامل الركود والخلافات الداخلية والتفسّخ الذي تعاني منه الجماعة جرّاء ذلك، مع عامل الضغط والاستهداف الخارجي، جعل الجماعة تنكفئ، إلى حد كبير، على ذاتها. لقد أضحت الجماعة أسيرة صراعاتها التنظيمية الداخلية، وكثيرون من قادتها مشغولون بالدسائس والمكر البَيْنِيِّ، لإحكام السيطرة وتهميش الخصوم التنظيميين وتهشيمهم. في الوقت نفسه، تجد الجماعة نفسها مستغرقةً في الحفاظ على الذات أمام حملات القمع والبطش. الأخطر أن الجماعة اليوم تَشيخُ، فهي لم تعد تنظم بشكل فعال في صفوفها لتجديد شبابها. أما ثالثة الأثافي بالنسبة للإخوان، فتتمثل في أن كثيرين من شبابهم، بل وحتى بعض قادتهم التاريخيين، ما عاد يعنيهم البقاء في صفوف الجماعة، مع أنهم كانوا يقاتلون، إلى وقت قريب، للحفاظ على عضويتهم فيها. كان التنظيم عقودا طويلة بمثابة الماء للسمك، لكنك تجد اليوم عشرات ومئات من أبنائه، بما في ذلك قيادات فيه، يخرجون منه غير آسفين عليه. هذا تطور خطير، لكنه لا يقرع أجراس الإنذار عند القيادات التنظيمية المتحكّمة بمفاصل الجماعة، ذلك أن معظم القيادات التنظيمية المتبقية ليست
الإخوان المسلمون، وهم على أبواب مئويتهم الأولى، يقفون على عتبة الاندثار. وهذا ليس قدرا محتوما، لكنه قد يكون الخيار الأكثر رجوحا ضمن المعطيات الحالية. أي فكر لا يتجدّد سيندثر. وأي تنظيمٍ يعجز عن استيعاب تحديات واقعه سيندثر كذلك. هذا لا يعني أن الإخوان سينتهون تنظيما وفكرا بشكل تام، لكنهم سيتحولون، إن بقوا على ما هم عليه، إلى جماعةٍ صغيرةٍ محدودة الأثر تعيش على ذكريات الماضي ومخلفاته. لم يعد من المقبول، ولا من المعقول، أن تصر قيادات تنظيمية ترى في نفسها "حرّاس المعبد" على محاولة كَبْتِ النقاش بين جدرانه وخارجها. نحن في زمن الفضاءات المفتوحة، والحقبة الستالينية وَلتْ بأدواتها البالية، وليكن لهم عبرة في عجز الأنظمة العربية عن قمع أصوات شعوبها، على الرغم من كل أدوات البطش التي يوظفونها لتحقيق هذا المراد المستحيل.