ما الذي يحدّد هويّة الكاتب الذي لا يكتب بلغته الأم طوعاً أو كرهاً؟ إن هويّة الكاتب الذي يكتب بلغته الأم لا تثير أي إشكال، حتى وإن كان هذا الكاتب يقيم في بلد أجنبي ويتقن لغته. لا أحد يتساءل مثلاً عما إذا كان الطيب صالح، الذي أمضى جزءاً مهمّاً من حياته خارج بلده السودان، وتحديداً في بريطانيا كاتباً سودانياً.
لكن هذه الهويّة تصير ملتبسة أو موضع تساؤل بالنسبة للكاتب الذي لا يكتب بلغته الأم (أمين معلوف مثلاً)، أو يكتب بلغتين اللغة الأم ولغة البلد الذي أصبح مواطناً فيه (صموئيل بيكت وميلان كونديرا مثلاً). ويتجلّى هذا الالتباس في الطريقة التي يتمّ بها تعريف هؤلاء الكتّاب، عندما يفوزون بجوائز كبرى مثل جائزة نوبل للآداب.
غاو زينغ جيان صاحب رواية "جبل الروح"، فاز بهذه الجائزة باعتباره كاتباً فرنسياً، في حين أنه ألّف أعماله الكبرى بالصينية. وما كتبه بالفرنسية لغة البلد الذي منحه جنسيته، هو عدد قليل جداً من المسرحيات. كان أول كاتب من أصل صيني يفوز بالجائزة. لكن الأدب الصيني حُرم منها. ولم يفز بها إلا بعد أعوام طويلة مع مو يان صاحب رواية "الذرة الرفيعة الحمراء".
أما بيكت الذي كتب أهم أعماله بالفرنسية، فقد فاز بـنوبل الآداب باعتباره كاتباً أيرلندياً. وهكذا أضيف اسمه إلى اسمي الفائزين الأيرلنديين بها قبله، وهما وليم بتلر ييتس وجورج برنارد شو، اللذان كتبا كلّ أعمالهما بالإنكليزية.
شخصياً أرى أن اللغة التي كتب بها الكاتب كل أعماله، أو الجزء الأهم منها هي التي تحدّد هويّته. اللغة ليست مجرد وسيلة للتعبير كما يقول بعضهم، وإنما هي أعمق من هذا بكثير. أن تكتب بلغة ما يعني أن تدخل عالم هذه اللغة فكرياً وحسيّاً وعاطفياً وتاريخياً. ليست اللغة خاصة لدى المبدع ركاماً من كلمات باردة محايدة تسمي أشياء معينة، وإنما هي عالم كامل شديد الخصوصية، وشبكة معقدة من التصورات والانطباعات والرؤى والأفكار.
كل كلمة لها حياة طويلة وهي تجرجر خلفها ماضياً ثريّاً. حالما تنطق بها أو تكتبها تنفتح أمامك دوائر لا نهائية من المعاني والدلالات. لا شيء في الواقع يوجد خارج اللغة. بل يمكن أن نقول إن كل شيء يتشكّل من اللغة وبها وداخلها.
عندما تكتب بالفرنسية مثلاً تتبنّى منطق العقل الفرنسي وتدخل مناخاته. تصير ترى العالم من خلال هذا المنطق وتفكّر بآلياته القوية، التي ترسّخت منذ آلاف السنين. قد تنجح إلى حد ما في الإفلات من هذا المنطق، بل وقد تدخل على هذه اللغة تغييراً ما، كما فعل إيميه سيزير أو ليوبولد سيدار سنغور أو كاتب ياسين.
لكن هذا التغيير يظل محدوداً، لأنه لا يمسّ المخزون اللاواعي في اللغة، وهو الأهم بل الحاسم في تحديد أفكارنا وأحاسيسنا وانطباعاتنا وتصوراتنا للعالم. من هذا المنطلق فإن غاو زينغ غيان كاتب صيني. والعرب الذين يكتبون بالفرنسية والألمانية والإنكليزية هم مواطنون عرب (جزائريون وتونسيون ومغاربة ولبنانيون ومصريون وسوريون..)، لكنهم ككتّاب هم فرنسيون وإنكليز وألمان. والنصوص التي كتبوها تنتمي إلى هذه الآداب، لا إلى الأدب العربي حتى لو كانت مواضيعها مستوحاة من بلدانهم.
وطبعاً هذا ليس عيباً، فمن حق أي كاتب أن يكتب باللغة التي يشاء. ولا بد أن نعترف بأنهم يقدّمون صورة جيدة عن بلدانهم، وعن العرب عموماً، خصوصاً عندما يفوزون بجوائز أدبية مثلما حصل لليلى سليماني التي فازت بجائزة غونكور مؤخراً، أو يصبحون أعضاء في الهيئات الثقافية الكبرى، مثل آسيا جبار وأمين معلوف اللذين انتخبا في مجمع اللغة الفرنسية العريق.
إلا أن كل هذا لا يخدم الأدب العربي ولا يقدّم له أي شيء (بل قد يعتّم عليه أحياناً). الذين يقدّمون صورة جيدة عن هذا الأدب هم الكتّاب الذين يكتبون بالعربية، وترجمت أعمالهم إلى اللغات الأجنبية، ولقيت إقبالاً من القراء مثل نجيب محفوظ ومحمود درويش.
* روائي تونسي