06 سبتمبر 2023
هيكل... تاريخ يمشي على قدمين
أراح محمد حسنين هيكل ركابه من وعثاء الحياة، وارتحل إلى مكانٍ باردٍ، لا يُزار فيه ولا يزور. هوى أشهر صحافي عربي، بعدما تربع على "الأهرام" في أبهى الحقب العربية المعاصرة، وفي أكثرها سواداً على الإطلاق، أي في زمن جمال عبد الناصر الذي قرأ العرب في حقبته صفحات من العزة والكرامة والتحرّر الوطني والتوحيد القومي، ثم صفحات من الهزيمة والقهر. وفي معمعان هذه الدراما العربية المبكرة، كان محمد حسنين هيكل شاهداً على عصر كامل من الصعود والهبوط والانحلال. فقد شهد اندثار حقبة الليبرالية المصرية، ونهوض مرحلة القومية العربية، ثم هزيمة يونيو/ حزيران 1967، فموت جمال عبد الناصر، وانحدار مصر إلى عصر الانفتاح الذي دشنه أنور السادات، بعدما دفع الجماعات الاسلامية، كالإخوان المسلمين، إلى الوقوف في وجه الناصريين والشيوعيين، فانتهى الأمر باغتياله على أيدي إحدى الجماعات الإسلامية. وفي خضم ذلك، كان محمد حسنين هيكل يتأرجح بين تاريخه الليبرالي في البداية، ثم ولائه المطلق لعبد الناصر، ثم تأييده أنور السادات الذي لم يتورع عن اعتقاله مع غيره من المفكرين والكُتاب في سنة 1981.
محمد حسنين هيكل الذي يشاكل اسمه اسم محمد حسين هيكل، صاحب رواية "زينب"، كان، في إحدى مراحل حياته، الأذن التي يهمس فيها عبد الناصر، فيتحول همسه إلى مقالة في "الأهرام" موسومة بعنوان "بصراحة" . وكثيراً ما كانت هذه المقالة الصريحة تثير الغضب هنا وهناك، وتحمّل عبد الناصر نفسه عقابيلها. ففي ستينيات القرن العشرين، بعد انطلاق الرصاصة الأولى لحركة فتح، راح هيكل يكتب أن الكفاح المسلح لا يصلح لمنازلة إسرائيل، لأن بلدان الطوق ليس فيها غابات على غرار فييتنام. وهاج الفدائيون ضده أيما هياج، ولم يشفع له إلا علاقته بحركة فتح التي كثيراً ما كان قادتها في القاهرة، أمثال فاروق القدومي (أبو اللطف) وهايل عبد الحميد (أبو الهول) وصلاح خلف (أبو إياد) يرابطون فيها لمقابلة عبد الناصر الذي لم يمنحهم هذه الفرصة، إلا بعد هزيمة 1967، وبالتحديد في أواخر سنة 1968. ويُحسب لهيكل إسهامه في تأمين اللقاء الأول بين ياسر عرفات وجمال عبد الناصر، وتبديد تقارير المخابرات المصرية عن أن حركة فتح إحدى أذرع جماعة الإخوان المسلمين.
لم يكن محمد حسنين هيكل مجرد صحافي مشهور، بل كان أشهر صحافي عربي على الإطلاق، وقد امتاز عن أقرانه جميعاً بنوع من ارستقراطية الكلمات والمعلومات. فشتان بينه وبين أنيس منصور الذي كان يدعى "أنيس جليس الرئيس"، أي أنور السادات. والفارق بينه
وبين موسى صبري كالفارق بين الغورية وغاردن سيتي، مع التبجيل الكبير لحي الغورية الذي درج فيه أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام في بدايتهما المدهشة، غير أن السلطة، ولو كانت حتى وزارة، جلّابة للنقمة. فقد انضم هيكل إلى السادات ضد علي صبري ورفاقه، بعد انقلاب 15 مايو/ أيار 1971، ولم يلبث أنور السادات أن استخدم "أخلاق القرية" لعزله، فلم ينعزل، بل راح يكتب بكثافة. وفي كتابه "بين الصحافة والسياسة"، برهن أن علي أمين جاسوس أميركي، وما برحت هذه التهمة مدعاة لعدم اليقين القاطع. ولعل إثارة هيكل قصة علي أمين كانت تهدف، في بعض وجوهها، إلى إحراج أنور السادات نفسه. وفي أي حال، فإن هيكل الذي لم يكن يوماً في صفوف المعارضة، تحول إلى رمز من رموز المعارضة الناصرية. وإلى واحدٍ من رواة تاريخ مصر الحديث، وإلى مرجعٍ سياسي مبجل في العالم العربي. ومرد ذلك إلى الزمان الذي كان فيه إلى جانب جمال عبد الناصر، وإلى عمره المديد الذي جعله قلماً دهرياً.
غير أن كتابات هيكل تواجه دائماً الشكوك؛ فجميع شهوده أموات، وهو كثيراً ما يستشهد بصانعي القرار في روايات شفهية، وقلما يستند إلى المراجع والوثائق في غير كتبه، الأمر الذي أوقعه أحياناً في مغامرات استنتاجية، كاتهامه القوميين الصرب بعملية 11/9/2001. ولم تمضِ عدة أيام، حتى كان أسامة بن لادن يعلن مسؤولية "القاعدة" عن هذه العملية البشعة والهمجية. وكذلك اتهم هشام شرابي بأنه قناة سرية بين وزارة الخارجية الأميركية وحركة فتح، وهو أمر غير صحيح على الإطلاق. وأطرف منقولاته أن الإسرائيليين أخذوا بول حافظ الأسد، حين كان يشارك في جنازة الملك حسين، وفحصوا البول ليكتشفوا أنه مريض. وقد تبين لاحقاً أن الرئيس الأسد لم يبل في أثناء الجنازة ألبتة، وهو المعروف بإدارة "مفاوضات المثانة"، وأن الإسرائيليين لم ينضحوا بوله من الحمام. وكل ما في الأمر أن جريدة بريطانية نشرت هذا الخبر، وأعادت صحيفة " يديعوت أحرونوت" نشره، فتناقلته صحف العالم، غير أن هيكل صدق الخبر، وبني عليه ما بنى من تحليلات.
مهما يكن الأمر، فإن العيش 93 سنة يكفي وحده ليكون صاحب هذا العمر مرجعاً مهماً في الصحافة والسياسة. فكيف إذا ظل صاحب هذه السنين نضر الذهن والعقل والجسد؟ ومحمد حسنين هيكل، في وجوهه المختلفة، وفي أطواره المتبدلة، استطاع أن يكون أهم صحافي عربي، ليس في العالم العربي فحسب، بل في العالم الغربي أيضاً. وكانت كتبه تنشر بالإنجليزية، فضلاً عن العربية، وتلقى رواجاً كاسحاً.
تعب محمد حسنين هيكل من سنوات عمره الباذخة، فودعنا وودع الحياة معاً، بعدما صنع مجد الصحافة المصرية في عصر عبد الناصر، وبعدما شهد أفول الصحافة التي كان ملكاً عليها، ولم ينازعه على عرشه أحد.
محمد حسنين هيكل الذي يشاكل اسمه اسم محمد حسين هيكل، صاحب رواية "زينب"، كان، في إحدى مراحل حياته، الأذن التي يهمس فيها عبد الناصر، فيتحول همسه إلى مقالة في "الأهرام" موسومة بعنوان "بصراحة" . وكثيراً ما كانت هذه المقالة الصريحة تثير الغضب هنا وهناك، وتحمّل عبد الناصر نفسه عقابيلها. ففي ستينيات القرن العشرين، بعد انطلاق الرصاصة الأولى لحركة فتح، راح هيكل يكتب أن الكفاح المسلح لا يصلح لمنازلة إسرائيل، لأن بلدان الطوق ليس فيها غابات على غرار فييتنام. وهاج الفدائيون ضده أيما هياج، ولم يشفع له إلا علاقته بحركة فتح التي كثيراً ما كان قادتها في القاهرة، أمثال فاروق القدومي (أبو اللطف) وهايل عبد الحميد (أبو الهول) وصلاح خلف (أبو إياد) يرابطون فيها لمقابلة عبد الناصر الذي لم يمنحهم هذه الفرصة، إلا بعد هزيمة 1967، وبالتحديد في أواخر سنة 1968. ويُحسب لهيكل إسهامه في تأمين اللقاء الأول بين ياسر عرفات وجمال عبد الناصر، وتبديد تقارير المخابرات المصرية عن أن حركة فتح إحدى أذرع جماعة الإخوان المسلمين.
لم يكن محمد حسنين هيكل مجرد صحافي مشهور، بل كان أشهر صحافي عربي على الإطلاق، وقد امتاز عن أقرانه جميعاً بنوع من ارستقراطية الكلمات والمعلومات. فشتان بينه وبين أنيس منصور الذي كان يدعى "أنيس جليس الرئيس"، أي أنور السادات. والفارق بينه
غير أن كتابات هيكل تواجه دائماً الشكوك؛ فجميع شهوده أموات، وهو كثيراً ما يستشهد بصانعي القرار في روايات شفهية، وقلما يستند إلى المراجع والوثائق في غير كتبه، الأمر الذي أوقعه أحياناً في مغامرات استنتاجية، كاتهامه القوميين الصرب بعملية 11/9/2001. ولم تمضِ عدة أيام، حتى كان أسامة بن لادن يعلن مسؤولية "القاعدة" عن هذه العملية البشعة والهمجية. وكذلك اتهم هشام شرابي بأنه قناة سرية بين وزارة الخارجية الأميركية وحركة فتح، وهو أمر غير صحيح على الإطلاق. وأطرف منقولاته أن الإسرائيليين أخذوا بول حافظ الأسد، حين كان يشارك في جنازة الملك حسين، وفحصوا البول ليكتشفوا أنه مريض. وقد تبين لاحقاً أن الرئيس الأسد لم يبل في أثناء الجنازة ألبتة، وهو المعروف بإدارة "مفاوضات المثانة"، وأن الإسرائيليين لم ينضحوا بوله من الحمام. وكل ما في الأمر أن جريدة بريطانية نشرت هذا الخبر، وأعادت صحيفة " يديعوت أحرونوت" نشره، فتناقلته صحف العالم، غير أن هيكل صدق الخبر، وبني عليه ما بنى من تحليلات.
مهما يكن الأمر، فإن العيش 93 سنة يكفي وحده ليكون صاحب هذا العمر مرجعاً مهماً في الصحافة والسياسة. فكيف إذا ظل صاحب هذه السنين نضر الذهن والعقل والجسد؟ ومحمد حسنين هيكل، في وجوهه المختلفة، وفي أطواره المتبدلة، استطاع أن يكون أهم صحافي عربي، ليس في العالم العربي فحسب، بل في العالم الغربي أيضاً. وكانت كتبه تنشر بالإنجليزية، فضلاً عن العربية، وتلقى رواجاً كاسحاً.
تعب محمد حسنين هيكل من سنوات عمره الباذخة، فودعنا وودع الحياة معاً، بعدما صنع مجد الصحافة المصرية في عصر عبد الناصر، وبعدما شهد أفول الصحافة التي كان ملكاً عليها، ولم ينازعه على عرشه أحد.