تدور في الجوِّ الآن أغنيَةٌ، تُذكِّرني بآخر لقاءٍ كان بيننا.
كان نهاراً ربيعيّاً أقرب إلى الصيف في بداياته، وكان القِرميد البارز يكتسي بدرجات حمراء تبدو أكثر إشراقاً بفعل أشعَّة الشمس. بائعُ الزهور الرُّوسيّ عند المُنعطَف يقف كعادته عارضاً بضاعته الزاهيَة أمام مدخل الحديقة. حيَّاني بلهجته المُكسرة وأنا في طريقي إليكَ. أذكر أني طلبتُ منه مرَّة أن يُقصِّر سيقان الورود فاستاء، وصار يشرح لي أنَّ طول سيقان وروده ليست إلا دليلاً على حُسن نوعها. وأردف قائلاً: "ثم إني إذا قصصتُها أكثر لن تصل لأسفل الدَّرَج"، كِنايةً عن قاع المزهريَّة! كم أضحكتني تشبيهاته المُبَتكرة بفعل ترجماته اللحظية.
تعمَّدتُ العبور يومها من خلال مسارات الحديقة الصغيرة التي تقع خلف البِناية التي أقطُن فيها. كان لا يزال لديَّ فائض من الوقت أمرّره قبل موعدنا، وكانت الأمطار الصباحية المتفرقة قد توقفت تماماً، والشمس الخجولة قد بانت، وبعثتْ بنورها يرشح من بين أوراق الأشجار العالية.
والحديقة كما هي دائماً نهاية كل أسبوع، تعجُّ بالأطفال وأُسرهم. صِياحهم وهم يتبارون بالكرة أو يتسابقون بالأحذية ذات العجلات الصغيرة، وضحكاتهم تُفرح قلبي. أمَّا الشباب فيستلقون بأريحيَّةٍ على العشب الأخضر المُنَدَّى بقطرات المطَر. وأتوقَّف أحياناً، ما لم أكن على عجلةٍ من أمري، لأُجيل النظَر في اللَّوحات المعدنيَّة الصغيرة المُثبَّتة على المقاعد الخشبية: "في ذِكرى فلان الذي كان يُحبُّ هذه الحديقة وأوقات السكينة التي كانت تمنحه إيَّاها"، "في ذِكرى فلانة التي كانت تهوى الجلوس للقراءة في فَيءِ أشجار هذه الحديقة"، أو"في الذكرى الحبيبة لفلان الذي لم يَسأم يوماً من لندن وعاش فيها حياة مليئة".
الحديقة كما هي نهاية كل أسبوع تعجُّ بالأطفال وأُسرهم
أمّا العجائز فمَوعدهم بعد العصر، برفقة كِلابهم أو شركاء حياتهم، يتَّكئُ الواحد منهما على كتِف الآخر. أُحاول في بعض الأحيان أن أتخيَّل نفسي بعد ثلاثين سنة من الآن، أقل قليلاً أو أكثر قليلاً، هل سأضع أحمر شفاه داكنا؟ وهل سأرتدي عقود اللؤلؤ على معاطف التويد الدافِئ؟ هل سأكون هُنا أصلاً؟ أم أعود إلى حيث لا ضَباب ولا حرية ولا مطر؟
أنت تعلم أنها حديقتي المفضلة بين كلِّ الجُنَيْنات المُخبأة بين الأحياء الخلفية للمدينة، وكلما أرهقني التفكيٍر في أمر ما ألجَأُ إليها، وأقطع دروبها الترابيَّة الضِّيقة مراراً لأصَفِّيَ ذِهني تحت ظلال أشجارها، لكنَّها لم تكن لتتَّسع لقَلَقي في تلك الأيام.
■
هل تذكر أنِّي وصلتُ يومها قبل موعدنا بدقائق؟ كنتَ تنتظرني هناك أمام باب المطعم على غير عادتِك، ترتدي سترتَك السوداء الجلدية، ومظلَّتُك الطويلة بمقبضها الباهت في يدٍ، بينما تحمل سيجارةَ ما قبل العشاء في يدك الأخرى. اِقتربتُ منك أكثر، وتبيَّنتُ رائحتك، التبغ ورطوبة المطَر. أفسحتَ لي بلياقة لأسبقك بعد أن فتح لنا الحارس الباب، وأنت تُطفئ السيجارة على عجل. كنتُ أتوق للحظة احتكاك مِعطفي بسترتك، والحفيف الذي بالكاد يصدره القماش من تلامس ذراعَينا. وهل أخبرتكَ من قبل أنّي أحب، أكثر ما أحب، الطريقة التي تنسى فيها راحة يدكَ على ظهري حين أتقدّمك بخطوات.
استقبلنا النَّادل لدى الباب بحفاوة، واخترتَ أنتَ طاولة في الزاوية فتبعتك. أشرت لي برأسك للجلوس على المقعد الوثير الذي يمتد على امتداد الجدار، والمكسو بقماش من المخمل الأخضر، وبأزرار غائرة بانتظام على ظهره، وجلست أنت على مقعد الخشب المقابل لي، فككت أزرار سترتكَ وأنت تُلقي نظرةً سريعةً على قائمة المشروبات. انكمشتُ أنا في مكاني وقد عاودني البرد بعد أن سلّمت معطفي للنادل.
في ذلك المطعم الدافئ والحلو، بإضاءته الصفراء الخافتة، كانت موسيقى الجاز الطافحة بالشَّجن والقلوب المحطَّمة تتردّدُ في الفضاء. والثُّريا بكريستالاتها البوهيمَّية دمعية الشَّكل تتدلَّى بِثقلٍ ورويَّةٍ مُشكِّلةً على الحائط المُجاور ظِلالاً مغوية. وكنتُ أنا كعادتي أتحسَّس مَلمس سطح الطَّاولة، وأنظر إلى المرايا التي حال لون أطرها المذهَّبة، وأنت تقرأ عليّ مُكوِّنات طبق اليوم.
أجبتها بأنَّي بخير، وكل ما أحتاجه هو المزيد من الوقت
كان المطعم هادئاً في بداية المساء، وكان صوت الموسيقى صافياً، وكأنَّ بيلي هوليدي تُغنِّي لنا وحدنا. أنت تنظر إلى هاتفكَ شارداً وأنا ألمس بأصابع قدمي اليمنى رخام الأرضيّة البارد. تُؤلمني قدمي بعد أشواط المشي النهاري. أُحرّرها من الحذاء وأحاول أن أسترخي. أشعر بأنَّي مُثقلة لكنِّي لا أقول لك ذلك. أظلُّ صامتة وأنت تُخبر النادل بطلباتنا، أنظر إلى حركات شفتَيك والخطوط الصغيرة حول زوايا عينَيك، وأتتبع تعابير وجهك الأليفة وأنت تبذل جهدك لتتبع سرد قائمة الحلويات التي ينصح بها رئيس الطهاة، وقد بدتْ ملامحك تحت تلك الظِّلال الناعمة، والنور الخفيف المتدرِّج، مثل أحد رسوم رامبرانت.
اِنسحب النادل وخيَّم الصمت، وبعد لحظاتٍ طالتْ بادرت لتسألني عن دراستي وما فعلتُه حتى الآن. كنتُ متأهبة للرد عن سَير البحث. تبادلنا الجُمل سريعاً، كمَنْ يتقاذف كرةً في ملعب للتنس، ولكن الأمر لم يدم طويلاً، فسرعان ما أخذَنا الصمت ثانيةً.
القلق يتصاعد وأنت تنظر إلى المرآة المثَبَّتة خلفي، لا تقول شيئاً... وعندما تفعل، تتحاشى النظر إليّ، بينما تتبِّع بعينَيك انعكاس سيدة دخلت إلى المطعم للتوّ، ألحظ بأنك ترقب طيفها في المرآة، فأبادرك: "أليست ساقاها جميلتين؟" تقول بأنك لا تستطيع أن تتبيّن ذلك، ولكنها تُذكّرك بمُمثّلة مشهورة، لا يحضرك اسمها الآن. تستمر في ملاحظتها حتى تخرج من مجال نظرك، وبعدها فقط، تنظر إليَّ، في عينيَّ لتُخبرني أنَّها بدأتْ تُمطر في الخارج. أذكر وقتها كيف أنَّ قلبي فزِع وأمعائي تلبَّكت من نظرتك... نظرتك تلك التي لا بد أنها سحبتِ الدماء من وجهي.
أرخى الصمت ظلاله علينا مرَّةً أخرى، واستسلمنا معاً للوجوم، وصوت انهمار المطر على واجهة المطعم يُثير الأسى. أستعيد الآن تردُّدك قبل أن تُخبرني بأني أبدو جميلةً اليوم في تلك الكنزة الصوفيَّة، وأنَّ اللون الكحليِّ يُناسب بشرتي تماماً، وبأنه "لا بدَّ أن يكون لونكِ المُعتمد"! قلت لي كلّ هذا، ولكنك لم تنظر إليّ لأكثر من ثوانٍ، فقد انشغلت بتأمّل يدك التي فردتَها على سطح الطاولة، أما أنا فأمعنتُ النظر إليك، وانتبهت إلى أنَّك سمنتَ قليلاً خلال الأسابيع الفائتة التي لم أرك فيها، ولكنِّي لا أخبرك بهذا، أعرف جيداً اهتمامك المُفرط بمظهرك وأناقتك.
ينقذنا النادل بسلّة الخبز والمقبِّلات التي يضعها بيننا، وتنهمك أنت بمزج زيت الزيتون والخل وتغمس الخبز في الخليط بتلذُّذٍ واضح، أما أنا فأبحث عن الشعرات البيضاء المتناثرة في مقدمة رأسك، أشعر بالحنين تجاهها، وأودُّ لو أستطيع أن أمدَّ يدي في تلك اللحظة ناحيتَك لأُفرِّق بأصابعي خُصلات غُرَّتِك كما اعتدتُّ أن أفعل.
أقرص كفِّيَ اليُمنى من تحت الطاولة، والتي كادت أن تمتدَّ صوبك. وأُلهي نفسي بمُتابعة الآخرين الذين يَلِجونَ المطعم مُسرعين وهم ينفضون رَذاذ المطر عن معاطفهم، مُنشغلين بمظلَّاتهم الُمبلَّلة. وعندما تشعر بِثقل الفراغ تتدارك الموقف لتقول لي بأنَّ السينما القريبة من منزلك تعرض فيلماً إيرانيّاً لمُخرجٍ أُحبُّه، لكن يأبى النادل إلّا أن يقطع هذا الحديث المصطَنع ليسأل عما إذا كنتَ تُفضِّل اللحم نيئاً أم مستوياً؟
■
كُنْتَ قد أتيت على كلِّ ما في طبقكَ حتى القطعة الأخيرة، التهمتَ حتى حبات الفاصوليا التي أذكر أنك لم تكن تفضلها، وأنا أحرِّك الشوكة في طبقي دونما أدنى شهية، فقط أنقل عينيَّ بين العابرين خلفك والأكل أمامي... وأنتظر. حدّثتني في النهاية عن كل شيء تقريباً إلّا ما جئت لتصارحني به.
اِنتظرتُك أن تبدأ الحديث الذي كنت أتوقّعه منذ أيام، لكنك كنت تؤجّله. وأنا في داخلي أتمنّى أن يمتدّ الوقت المستقطع بيننا، متهيِّبةً من سماعه. وعندما جاء النادل ليرفع الصحون ويُهيِّئ الطاولة لطبق الحلوى الأخير، وقفتُ مغادرة مقعدي من غير تفكير ولم أدر ما الذي سأفعله. أسعفني النادل الذي مرَّ قريباً ليُشير إلى مكان الحمَّام. أقول بلا تردد: "نعم، أحتاج الحمَّام"... لكنَّك ربما أدركتَ جيداً أن ما أريد قوله فعلاً هو: "احتاج إلى المزيد من الوقت!". يداي ترتجفان فأُشغلهما بسلسلة حقيبتي. تُحدِّق فيَّ لبُرهةٍ وتتقلَّص ملامحك، وأكاد أشعر بالشفقة تجاهك، لكنِّي أذكر نفسي بأنَّك مَن تسبَّب بكل هذه الفَوضى، وهذا عدل. وأفكر: لماذا لا نستطيع أن نستمر كما نحن؟ كما كنّا قبل أسابيع قليلة؟ ونعود للحديث عن كيارستمي وإيريك رومر، وكأنَّه حوار انقطع قبل لحظة فقط!
في الحمَّام أوصدتُ الباب، ووضعت غطاء المرحاض وجلستُ عليه. كنتُ أنظر إلى كفيَّ اللتَين ما زالتا ترتعشان، واستعدتُ تمارين التَّنفس التي أرشدتني إليها صديقتي الهنديَّة الطيبة، لكنها لم تُفدني بشيء. نعم أنا بحاجة إلى المزيد من الوقت لأتمالك نفسي، لأهدأ قليلاً، ولكي أحرِّر روحي من العذابات التي تجيء مع الألفة والاعتياد، لكي أخلِّصها من كلِّ تلك اللحظات المبهجة والتفاصيل الحميمة المتراكمة بحيويَّةٍ وصخَبٍ في داخلي. يتوَجَّب عليَّ أن أُسكتها جميعاً؛ أن أخمِدها، أو ربما أُوضِّبها في صناديق خشبيَّةٍ وأدفع بها إلى زاويةٍ مهجورةٍ داخل تلافيف رأسي.
كانت هناك سيدة في الحمام، تقف أمام الحوض، تستخرج بودرة من حقيبتها، تميل إلى المرآة لترى وجهها بصورة أوضح، وتطبطب بالإسفنجة الصغيرة والمدوَّرة على بشرتها، ثم تعتدل مُنتصبةً لتُعدل من هِندامها. سألتْني بعد أنِ انتهت والتفتتْ صوبي إن كنتُ على ما يرام. أنفي كان محمرّاً وعيناي كذلك، لكنِّي أجبتها بأنَّي بخير، وكل ما أحتاجه هو المزيد من الوقت فقط. هزَّتْ المرأة رأسها وكأنَّها فهمت كلَّ شيء وسبقتْني في الخروج.
أعود إلى الطاولة، وأجدك تُجادل النادل بسبب تأخر طبق الحلوى، وتسأله إن كانوا سيجلبونه من إيطاليا مثلاً؟ ينسحب مُطرقاً ومُعتذراً، وبعد لحظات طالتْ، تقول لي ما حاولتَ منذ أيامٍ أن تقوله على الهاتف أولاً لكنَّك فشلت، ومنذ دخلنا إلى المطعم كنت تؤجله. تقول بأنك ستسافر بعد أيام، وقد كان قراراً صعباً. ألم نبتعد لأجل هذا؟ أسألُ نفسي، وبعد أسابيع طويلة من الحيرة والقلق والتوتُّر ها أنت تقولها صراحة. تطلبُ مِنِّي أن أتفهَّم. تقول لي بأن الأمر لربَّما سيكون صعباً على كلَينا في البداية، ولكنَّني ما زلتُ في مقتبل العمر، والفرص أمامي كثيرة، وأنَّك تتفهَّم غضبي، ولكنِّي لا أغضب ولا أثور، كما كنت تتوقَّع، بل أبقى على صمتي وأنا أتحسّس بُرُودة الرخَام بأطراف أصابِعي، وقد شتّت تركيزي تماماً انهمار المطر.
* كاتبة من قطر