والدي قتله "داعش"... قصة من سوق الشيخ عبد الله
قاسم العلي
صحافي عربي أولاً، وعراقي ثانياً. عمل في وسائل إعلام عربية وعراقية مختلفة. يقول: "بداية التغير الحقيقة عندما تغلق أسواق بيع الأقلام والذمم".
هناك رأيته وهو يدفع العربة بجسده النحيل وسمرة خفيفة كست وجهه وساعديه وبريق عينيه الذي شدني إليه. اقترب مني وقال: هل تريد عربة يا أستاذ؟ سأبقى معك لحين انتهائك من التسوق وسأرضى بأي أجر تدفعه.
كان يترقب الجواب مني بعينيه اللتين توحي نظراتهما بشخصية قوية فيها بريق لا أستطيع أن أعبر عنه بكلمات.
كانت زوجتي برفقتي، سبقتني وقالت: "تعال يا ولدي"، فقد كان عمره مقارباً لعمر ابني محمد. لم أكن الوحيد الذي يتفحص بنظره هذا الطفل بل كانت زوجتي كذلك التي بدورها همست في أذني: انظر إلى حذاء الصبي، كان ينتعل حذاءً ممزقاً.
نادت عليه "ما أسمك"؟ قال "أحمد"، قالت "تعال يا بني سأشتري لك حذاء جديداً". توقف وبنظرة حادة قال: "لا والله لن تشتري لي شيئاً، أنا لست فقيراً وعندي حذاء جديد، ولكني أرتدي هذا للعمل". توسلته وقالت له "أنا مثل أمك".
فقال لها "على رأسي ولكن لا أريد". قالها بحزم واندفع نحو العربة ليكمل طريقه. تأكدت نظريتي حول هذا الصبي أنه حقاً رجلٌ وقوي الشخصية.
أكملنا التسوق، وخلال طريقنا نحو السيارة، وبخبث الصحافي وطرقنا المتعرجة في التقرب من شخص لمعرفة حقيقته، بدأت بسؤاله: من أين أنت يا أحمد؟
قال من الأنبار، قلت له من أين؟ قال من القائم، وأنا من عشائر السلمان. تبسمت بخبث وقلت له: هل لا زلتم مخابيل (مجانيين). توقف وضحك وقال: نعم يا أستاذ. قلت له: هل تعرف فلانا؟ فقال هذا شيخ عشيرتنا. وعرف كذلك بعض الشخصيات التي عددتها والتفت إلي متسائلا: من أين تعرف كل هؤلاء؟ أجبته وأنا أشعر بالنشوة: أنا صحافي. أحسست بأنني أصبحت قريباً منه لأنه كسر حاجز الصمت. وبادرني بالسؤال: هل عملي هذا عيب يا أستاذ؟
قلت له: العمل شرف وكذلك عملك، أنا أحترمك لأنك تعمل ولو كنت عالة على أهلك لن يحترمك أحد. واسترسلت معه في الكلام وقلت له: كنت في عمرك أعمل في البناء أحمل الحجارة ومواد البناء. تبسم وشعر بالنشوة وقال: حقاً يا أستاذ، كنت تعمل وأنت في عمري؟ قلت: أجل. أنا وأنت من الطبقة نفسها. ليس هناك تفاضل بيننا. أنت تعمل وأنا أعمل. تحرك الدم في عروق أحمد وأحس بالسعادة وراح يدفع العربة بنشاط أكبر وهو يبتسم.
في عمل الصحافة قد نكذب وقد نجمّل الأشياء وقد نرسم صوراً جميلة لواقع مرير، هكذا نحن. ولكن في الأخير نحن بشر نحس ونشعر بآلام الآخرين. حاولت معرفة أحمد عن قرب، فسألته: ماذا يعمل والدك؟ توقف عن دفع العربة. خفت بريق التظاهر بالقوة في عينيه، تلعثم، تحشرجت الكلمات في جوفه، وأخيرا قال: "والدي قتله داعش". وراح يشيح بنظره بعيداً عني ليداري دموعه التي انهمرت، وحاول جاهداً أن يتمسك بدور الرجل القوي الذي كان عليه قبل قليل، ولكن خانه الدور الكاذب ليظهر أحمد الطفل الذي لم يكتف بعد من حنان وكنف والده.
"والدي قتله داعش". خرجت تلك الكلمات بعدة أصوات مخنوقة من جوف طفل. حاول جاهداً إخفاء طفولته. انتبهت لنفسي ماذا فعلت، خانني خبث المهنة وخانتني العبارات وفراسة الصحافي وأصبحت أبحث عن حلول للخروج من هذا المأزق. سامحني يا إلهي، لقد آلمت هذا الصبي. لا يزال يكفكف دموعه ويشهق من أنفه بأنفاس من نار. استجمعت شتاتي وقلت له: أنت رجل وكثيرون فقدوا آباءهم، ولا زالوا مستمرين.
"قول يا الله فهو حسبك"، حينها رفع رأسه وقال: "لقد قتلوا أبي أمامي يا أستاذ". لم أتمالك دموعي التي انهمرت وأصبحنا طفلين يبكيان في مكان عام. وقد انتبه بعض المارة لمنظرنا، وبحركة مفاجئة أمسكت بالعربة وقلت لأحمد: أنا سوف أدفعها، استرح قليلا. أمسك بيدي، وقال: "لا والله يا أستاذ لن تدفعها". قلت له: أنا قوي وأستطيع حملك أنت والعربة. شد على معصمي وقال: "لا والله"، أحسست بقبضته القوية، نظرت إلى ساعده الذي بدا مكسواً بالعضلات وكأنها يد شاب في الخامسة والعشرين من عمره.
صحافي عربي أولاً، وعراقي ثانياً. عمل في وسائل إعلام عربية وعراقية مختلفة. يقول: "بداية التغير الحقيقة عندما تغلق أسواق بيع الأقلام والذمم".