24 أكتوبر 2024
وجه آخر لقضية الميراث في تونس
لم يكن مستغرباً أن يثير مقترح الرئيس التونسي، الباجي قائد السبسي، تغيير قانون الميراث الضجة الواسعة في تونس، وكان لها ارتداداتها في الدول العربية، فالمسألة تتعلق بقضية جذورها دينية، وتتأصل في نصوص شرعية، غير أن القضية، في جوهرها، تتجاوز مجرد النقاش الديني نحو مشكلةٍ فعليةٍ مرتبطة بطبيعة التناول الممكن لقضايا ذات حساسية عالية في المجتمعات العربية. فما طرحه الرئيس التونسي يندرج ضمن المسلمات التي لا تقبل النقاش لدى بعضهم، ووضعها اليوم على بساط البحث لتصبح مسألة رأي عام أحدث هزّة فعلية لقوى فكرية وسياسية مختلفة، ناهيك عن علاقتها بالجانب المجتمعي نفسه الذي ترسخت بنيته التشريعية وأعرافه القانونية ضمن ضوابط محدّدة خاصة في قوانين الأسرة والأحوال الشخصية. وبعيداً عن المناكفات الإيديولوجية، ومحاولة تسجيل النقاط في المجال السياسي، فإن المسألة تحيل على درجة الحيوية التي يعيشها المجتمع التونسي بعد الثورة. حيث أصبحت كل القضايا قابلةً للبحث العام وللنقاش الواسع، وهذا أمر يُحسب للمشهد الديمقراطي التونسي. فحالة التحرّر في طرح الآراء تجاوزت مجرد الجدل السياسي أو الخلاف الفكري لتطرح قضايا تتعلق بالبنية المجتمعية والمسائل القانونية والتشريعية القريبة من حياة الناس، أعني قضايا المرأة والأسرة.
وإذا لم يكن مستغرباً أن توجد تيارات فكرية تدعم التوجهات التحرّرية في المجال الاجتماعي، وتحاول التفكير خارج المنظومة الدينية المستقرّة منذ قرون، فإن هذه الفئة تظل، في النهاية،
ضمن التوجهات الأقلوية التي تعبر عنها تيارات نسوية، أو جماعات تحرّرية تعتقد أن أولوياتها تنحصر في الصراعات المجتمعية، وإعادة تشكيل النمط الاجتماعي وفق أفكار يصنفها قسم كبير من المجتمع ضمن الفكر الوافد والدخيل. وبغض النظر عن تبني رئيس الجمهورية قرارات قريبة من هذه التوجهات ضمن أجندات سياسية، وربما شخصية، في جانب منها من جهة رغبة الرئيس الحالي في تخليد اسمه على الطريقة البورقيبية الذي دخل التاريخ باعتباره من ألغى تعدّد الزوجات، وأقر قانوناً يجيز التبني، فإن السياق التاريخي في هذه الحالة يختلف عما فعله بورقيبة عشية استقلال تونس، لسببين مهمين على الأقل، أولهما أن رئيس الدولة في ظل تونس الحالية لا يتمتع بصلاحية تشريع القوانين وإنفاذها، وإنما أقصى ما يقدر عليه تقديم مبادرات تشريعية تخضع، فيما بعد، لفحص البرلمان الذي يمكنه إجازتها أو رفضها، حسب قواعد التصويت الداخلي، وأوزان الكتل المختلفة التي تؤيد التعديلات أو ترفضها، خلافاً للزمن البورقيبي، حيث كان قرار الرئيس هو نفسه قانوناً قابلاً للإنفاذ العاجل من دون نقاش أو اعتراض. السبب الثاني هو التغير الكبير الذي شهده المجتمع التونسي، من حيث طريقة التفكير، أو من جهة طبيعة التعامل مع القضايا المجتمعية، فالشارع التونسي، على الرغم من حضور نسبة لافتة من التدين فيه يميل، في جانبٍ منه، إلى نمط من الليبرالية الفكرية في تناول قضايا مجتمعية كثيرة من جهة، كما يعرف صعوداً لافتاً للفكر النسوي، مع انتشار حضور المرأة القوي في مختلف المجالات، ما يجعلها في موقعٍ يطالب بمزيد من الحقوق والإصلاحات التي تخدم حضورها وتؤيد نفوذها. على أن هذا لا يعني أن تمرير القانون في ذاته مسألة سهلة ومتاحة، بل الأكيد أن مسألة الميراث بالذات أعقد من أن يتم حسمها بمجرد مبادرة تشريعية من رئيس الدولة، فبالإضافة إلى الجوانب الدينية والثقافية، وحتى السياسية، فإن الجانب الاقتصادي يحضر في هذه المسألة، وهو ما يدفع جانباً مهماً من المجتمع نحو رفض تعديل مفاجئ لبنيةٍ قانونيةٍ مترسخة ومتجذرة في المجتمع.
يشكل فتح باب النقاش في هذه القضايا المجتمعية، على أهميته، إثارة لمشكل في غير وقته، بمعنى أنه يعبر عن نوع من التسرّع في بحث قضيةٍ ليست ملحة، على الأقل من الناحية
التشريعية بالنسبة للمجتمع التونسي. وكان من الأجدى أن تبقى القضية موضوعاً للجدل والحوار والتفاعل الاجتماعي، والأكيد أن المجتمع نفسه سينحاز إلى الخيارات المناسبة للمرحلة التاريخية التي يعيشها، فترسيخ المسار الديمقراطي يقتضي مزيداً من التعميق والترسيخ، بعيداً عن كل ما يمكن أن يشوّش عليه، أو يمثل دافعاً للنكوص عنه، ذلك أن قطاعاً من الشارع أصبح في موضع المقارنة مع دول أخرى، تخضع لأنظمة استبدادية، ولا تطرح فيها مثل هذه القضايا.
وعلى الرغم من أن كل دراسة موضوعية للمسألة تكشف أن تجنب أنظمة الاستبداد الحديث في قضايا الأسرة لا يدل على إيمانها العميق بالقضايا الدينية، ولا عن رغبة في احترام المجتمع، وإنما هو يعود في الواقع الى انشغال الحاكم الطاغية بتثبيت أركان حكمه، والابتعاد عن إثارة القضايا التي قد تشكل مدخلاً ينتقده منها معارضوه، خلافاً للمشهد التونسي، حيث يمكن طرح كل القضايا وحسابات الربح والخسارة في المجال السياسي يحسمها الصندوق. وعلى هذا، فإنه على الرغم من سوء اختيار اللحظة التي طرح فيها الرئيس التونسي مقترحه، وما قد يحدثه من جدل مجتمعي وانقسام فكري وعقدي، فإنه، في النهاية، تعبير عن مدى التطور الفكري الذي تعرفه الساحة التونسية، وامتحان لمدى قدرة الشارع على تحمّل أشكال شتى من النقاشات والحوارات، تتعلق بقضايا مختلفة، حتى أكثرها ارتباطاً بمسائل الدين والمعتقد. ففي هذه الحالة، إذا تم ضمان عدم هيمنة الفكر الأقلوي عبر قوة السلطة، فالأكيد أن مجرد الجدل والبحث في الموضوع دافع لمزيد انفتاح المجتمع، وتقبله البحث في كل القضايا، حتى أكثرها تعقيداً وتأثيراً وخطورة.
وإذا لم يكن مستغرباً أن توجد تيارات فكرية تدعم التوجهات التحرّرية في المجال الاجتماعي، وتحاول التفكير خارج المنظومة الدينية المستقرّة منذ قرون، فإن هذه الفئة تظل، في النهاية،
يشكل فتح باب النقاش في هذه القضايا المجتمعية، على أهميته، إثارة لمشكل في غير وقته، بمعنى أنه يعبر عن نوع من التسرّع في بحث قضيةٍ ليست ملحة، على الأقل من الناحية
وعلى الرغم من أن كل دراسة موضوعية للمسألة تكشف أن تجنب أنظمة الاستبداد الحديث في قضايا الأسرة لا يدل على إيمانها العميق بالقضايا الدينية، ولا عن رغبة في احترام المجتمع، وإنما هو يعود في الواقع الى انشغال الحاكم الطاغية بتثبيت أركان حكمه، والابتعاد عن إثارة القضايا التي قد تشكل مدخلاً ينتقده منها معارضوه، خلافاً للمشهد التونسي، حيث يمكن طرح كل القضايا وحسابات الربح والخسارة في المجال السياسي يحسمها الصندوق. وعلى هذا، فإنه على الرغم من سوء اختيار اللحظة التي طرح فيها الرئيس التونسي مقترحه، وما قد يحدثه من جدل مجتمعي وانقسام فكري وعقدي، فإنه، في النهاية، تعبير عن مدى التطور الفكري الذي تعرفه الساحة التونسية، وامتحان لمدى قدرة الشارع على تحمّل أشكال شتى من النقاشات والحوارات، تتعلق بقضايا مختلفة، حتى أكثرها ارتباطاً بمسائل الدين والمعتقد. ففي هذه الحالة، إذا تم ضمان عدم هيمنة الفكر الأقلوي عبر قوة السلطة، فالأكيد أن مجرد الجدل والبحث في الموضوع دافع لمزيد انفتاح المجتمع، وتقبله البحث في كل القضايا، حتى أكثرها تعقيداً وتأثيراً وخطورة.