بعد أكثر من مائة يوم على قرار دول محور الرياض – أبو ظبي حصار دولة قطر على خلفية محاولة تغيير سياسات الدوحة الخارجية والداخلية المستقلة، تقلصت أوراق دول الحصار إلى الدرجة التي باتت فيها مضطرة لاتخاذ خطوات قد تؤدي إلى الإخلال الأمني والسكاني بكافة دول الخليج وعلى رأسها السعودية. وتتمثل الخطة السعودية في محاولتها جعل شيوخ القبائل السعوديين يقومون بتجنيد وجذب أبناء قبائلهم الذين يعيشون في دول الخليج وعلى رأسها قطر والكويت والإمارات، لكن هذه الخطوة كان مصيرها الفشل إذ إن القبائل في الكويت تتمتع باستقلالية سياسية كبيرة عن نظيرتها في السعودية نظير وجود برلمان منتخب تستطيع من خلاله انتخاب ممثليها. كما أن الإمارات تصرّ على اختلاف هويتها الثقافية والدينية عن السعودية حيث تقدّم تراثها على أنه تراث صوفي مالكي بخلاف التراث السعودي الوهابي. أما على الصعيد القطري فقد فشلت محاولات ولي العهد السعودي محمد بن سلمان لاستمالة قبيلة آل مرة إلى جانبه فشلاً ذريعاً.
ففي منتصف شهر يونيو/ حزيران الماضي استدعى محمد بن سلمان عدداً من شيوخ قبيلة آل مرة المنتشرة في السعودية والكويت وقطر والإمارات والبحرين ليقوموا بالإدلاء ببيان هاجموا فيه سيادة قطر، وحرَضوا فيه عليها إلى درجة وصف فيها أحد الشيوخ قطر بقرية تابعة لإقليم الإحساء، لكن هذا الهجوم لم يلقَ أي رواج بين القطريين المنتمين لآل مرة، بل وعلى العكس تسارعت الإدانات من داخل قطر والكويت وحتى السعودية لإقحام القبيلة في الخلاف السياسي من دون صفة رسمية.
ويبدو المشهد القبلي في الخليج العربي والأردن وجنوب العراق وشماله معقداً ومتشابكاً إلى الدرجة التي حاولت معها المملكة العربية السعودية استغلال حدودها المطلة على جميع هذه الدول، في تجييش بعض القبائل ضد حكوماتها والسعي لنزع شرعيتها.
ففي الجزء الشرقي من السعودية تتواجد قبائل إقليم الأحساء التي تعيش على ضفاف الخليج العربي وقطر والبحرين وجزء من الكويت، وفي إقليم نجد قلب السعودية تتواجد القبائل التي تعيش بين السعودية والكويت، كما تتواجد قبائل جنوب المملكة والربع الخالي في عمان والإمارات واليمن، أما قبائل الشمال السعودي فتنتشر في السعودية والعراق، فيما تتوزع قبائل الحجاز بين الأردن والسعودية. واستثمرت السعودية منذ القدم في شيوخ هذه القبائل الذين ورثوا زعامتها عن أجدادهم الذين حارب جزء منهم مع الملك عبدالعزيز بن سعود في سعيه لتوحيد المملكة، حيث استطاع إسقاط إمارة قبيلة شمر في الشمال، ودولة الأشراف في الحجاز، بالإضافة إلى الدولة العثمانية في الشرق، ودولة الأدراسة في عسير.
وقامت السعودية بإنشاء جيش مصغر لكل قبيلة (فوج قبلي) يتبع وزارة الحرس الوطني بشكل أساسي، ويترأسه شيخ القبيلة نفسها الذي يتنقل بين بلدان الخليج، ويضم هذا الجيش أفراداً يعيشون في دول خليجية أخرى، ويحصلون على جنسيتها أيضاً، وهو ما قد يشكل خطراً أمنياً على هذه البلاد. ويعطي السعوديون لشيوخ القبائل في الدول المحيطة بهم صلاحيات واسعة تتضمن "ختماً تعريفياً"، يستطيع من خلاله الشيخ القبلي منح أي شخص من قبيلته الجنسية السعودية "التابعية" مهما كانت جنسية هذا الشخص، كما تقوم الرياض بإرسال "شرهات" وهي منح مالية شهرية ونصف سنوية وسنوية إلى شيوخ القبائل في الدول الخليجية في محاولة لاستمالتهم. ولم يكتف السعوديون بإغراء بعض شيوخ القبائل في الخليج بالأموال والمناصب العسكرية، فاتجهوا إلى عشائر جنوب ووسط العراق المنتمية للطائفة الشيعية في محاولة منهم لسحب النفوذ من حكومة بغداد في الجنوب العراقي المطل على الكويت والسعودية.
وكشف مسؤولون عراقيون في وقت سابق لـ"العربي الجديد "أن الحكومة السعودية دعت أكثر من 50 زعيماً قبلياً وعشائرياً عراقياً لزيارتها تحت دعوى "تعزيز العلاقات الأخوية"، وتقديم دعم مالي لأعضاء هذه العشائر التي تعاني من الفقر بسبب الفساد المالي وسيطرة المليشيات على الجنوب. لكن ورقة الضغط السعودية هذه، وإن بدت أنها قد تؤتي ثمارها مع عدد من شيوخ القبائل الذين يستسلمون للإغراءات المالية والسياسية التي تقدمها لهم الرياض، فإنها قد تكون خطوة مضرّة بها على المدى البعيد خصوصاً في ظل السعي السعودي لبناء دولة حديثة، تتجاوز نموذج شبه الدولة الريعية الحالية القائمة على الصرف الباذخ لشيوخ القبائل على خطى مؤسس المملكة عبدالعزيز بن سعود في محاولة لتأليفهم.
ويعيش السعوديون في مأزق كبير بين محاولة بناء الدولة الحديثة، وبين تقوية المؤسسة القبلية لاستخدام نفوذها في قطر والكويت والإمارات والبحرين وحتى في اليمن التي يمنح النظام السعودي فيها بشكل دوري جنسيته لشيوخ قبائلها، ويعطي أفرادها تسهيلات لدخول السعودية بشكل مباشر.
ومن المتوقع أن يظهر هذا المأزق بشكل واضح عقب تطبيق رؤية 2030 التي تستهدف تحويل السعودية إلى دولة نيوليبرالية متقدمة، ما يعني وقف مخصصات شيوخ القبائل والعشائر التي يأخذونها بشكل شهري لتقويتهم واستخدامهم، بالإضافة إلى عودة كبار الضباط من عائلات الشيوخ والقبائل المشاركين في الجيش السعودي إلى الرياض بعد انتهاء حرب اليمن، ووجود كتائب داخل الجيش إما تكون منتشية بالنصر في حال فوز السعودية بالحرب، أو ساخطة في حال هزيمتها. وعلى كل حال فإن شيوخ القبائل الصغار الذين يقودون هذه الكتائب والذين عاشوا طوال سنوات من المخصصات المصروفة لهم من قبل الديوان الملكي، قد يملكون سبباً لمعارضة حكم ولي العهد محمد بن سلمان.