وفاة قبل الأوان [5/2]... سوق سوداء للمسكنات وعجز في أطباء الرعاية التلطيفية بمصر
يعيد جورج عزت، استشاري علاج الأورام السرطانية بمستشفى معهد ناصر ، أكبر المراكز الطبية المتخصصة التابعة لوزارة الصحة المصرية، قلة عدد فرق الرعاية التلطيفية العاملة في المشافي إلى النقص في الكوادر الطبية المؤهلة وضعف التمويل، اللذين يحدّان من التوسع في برامج إدارة الألم، على الرغم من التوسع العالمي فيها للتخفيف من معاناة المصابين بالأمراض المزمنة وذويهم.
وتُعرّف منظمة الصحة العالمية الرعاية التلطيفية بأنها نهج لتحسين نوعية حياة المرضى البالغين والأطفال، وأسرهم، ممن يواجهون المشكلات المرتبطة بالمرض الذي يهدد حياة المريض، من خلال خدمات الوقاية وتسكين الألم التي تشكل ركناً أساسياً في الرعاية التلطيفية، عبر تحديد نقاطه والمشاكل الأخرى المرتبطة، سواء بدنية أو نفسية، أو اجتماعية أو روحانية، في مراحل مبكرة وتقييمها وعلاجها على نحو سليم.
وعلى الرغم من حاجة المرضى للرعاية التلطيفية، وخاصة من يعانون من السرطان والذين تختلف درجات احتياجهم لبرامج إدارة الألم من أجل التحكم في الأعراض التي يعانون منها، خصوصا بعد العلاج الكيميائي، وأبرزها الألم والأرق والتعب، بغض النظر عن جنس المريض أو عمره أو المستوى الاجتماعي والاقتصادي، فإن في مصر 4 مراكز فقط للعلاج التلطيفي وإدارة الألم، أحدها في المعهد القومي للأورام التابع لجامعة القاهرة، وآخر في مستشفى معهد ناصر للبحوث والعلاج، وثالث في معهد جنوب مصر للأورام التابع لكلية الطب بجامعة أسيوط، ورابع في قسم الأورام التابع لجامعة المنصورة بدلتا مصر، ومع ذلك، لا تخصص وزارة الصحة ميزانية مستقلة للعلاج التلطيفي لمرضى الأمراض المزمنة، إذ يدخل ضمن المخصصات العامة لعلاج مرضى الأورام، بحسب عزت.
أطباء غير مؤهلين
خلال عام 2019، زار مراكز الأورام التابعة لوزارة الصحة المصرية 40 ألف مريض، وفقاً للاستشاري سامي رمزي، الأستاذ في المعهد القومي للأورام، والمشرف على مراكز الأورام بوزارة الصحة المصرية، والذي يؤكد العجز في عدد الأطباء المقيمين المتخصصين في العلاج التلطيفي، وتابع: "الاستشاريون يتم توفيرهم من أساتذة الجامعات ولا مشكلة في ذلك، بينما تعاني المشافي من عجز في الأخصائيين الذين يمثلون الخط الأول ويتواصلون مع المرضى، وغالبيتهم يتجهون للخارج بعد تدريبهم جيدا، كون التخصص مطلوب عالميا، حيث يبلغ عدد الأطباء المتخصصين في علاج الألم العاملين في وزارة الصحة حوالي 1600 طبيب، لكن الكثير منهم خارج مصر".
هذا ما تؤكده الدكتورة مهجة عادل، رئيس قسم التخدير والرعاية المركزة، وعلاج الألم بالمعهد القومي للأورام، والتي تقول :"لا أطباء مدربين على تقديم العلاج التلطيفي للمرضى داخل عيادات علاج الألم، وخاصة لمرضى الأورام بعد العلاج الكيماوي، أو الإشعاعي أو الجراحي، بالرغم من أن الأمر يقتضى فريقا طبيا متكاملا، من أطباء علاج الألم، وتمريض وصيدلة إكلينيكية، وذلك لتوصيل أفضل خدمة للمريض".
وتستقبل عيادة علاج الألم في المعهد القومي للأورام التابع لجامعة القاهرة 200 حالة يوميا، بعد أن كان العدد يقتصر على 100 مريض يوميا، لكن عدد المرضى يعد كبيرا، مقارنة بعدد الأطباء المدربين على علاج الألم، بحسب عادل، مشيرة إلى أن أنواعا مثل أورام المخ، والعظام، والعمود الفقري، والحالات المتقدمة، يعانون من آلام شديدة وبحاجة ماسة للعلاج التلطيفي.
ومؤخرا، طرح مساق حول الرعاية التلطيفية لطلبة الطب في قسم الأورام، ضمن مادة "العلاج بالأدوية الكيماوية"، لكن نقص الإمكانات يؤدي إلى نقص البرامج التأهيلية للأطباء بعد التخرج، وفقاً لعزت.
وفي الوقت ذاته، لا تمتلك وزارة الصحة خطة لتطوير الرعاية التلطيفية في مصر، في ظل أن 3 مراكز الرعاية التلطيفية وإدارة الألم تابعة لمشاف جامعية تابعة لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي، بحسب إيمان محمود، منسقة الجمعية المصرية لدعم مرضى السرطان.
نقص في الأدوية
يعاني المريض أحمد عمران، من صعوبة الحصول على مسكن لآلامه، إذ يذهب كل أسبوعين بنفسه إلى الطبيب المختص في عيادة الآلام بمستشفى المنصورة الجامعي، في محاولة للحصول على 14 قرصا من الترامادول 100 ملغ، "من أجل تخفيف الآلام الشديدة التي يشعر بها بعد الحصول على جرعة الكيماوي، وفي مرات عديدة ذهب لعيادة الآلام ولم يصرف له الدواء، بسبب عدم توفره داخل المستشفى، وقد تصل مدة انقطاعه إلى شهرين" بحسب ما رواه لـ"العربي الجديد".
معاناة عمران تتكرر مع آخرين من مرضى السرطان في مصر وفقاً لما تقوله منسقة الجمعية المصرية لدعم مرضى السرطان، موضحة لـ"العربي الجديد" أن قانون استيراد الأدوية المخدرة رقم 182، لعام 1960، قديم، ويتضمن صرف جرعات بسيطة للمريض ووضع حد أقصى، لذا يجب تعديله والسماح بصرف جرعات أكثر لمرضى الأورام بالأخص، وزيادة الكميات التي تستوردها الشركات، مضيفة إن "الخوف من إساءة استخدام المسكنات لا يعني منعها عن المرضى المحتاجين لها"، وهو ما يتفق معه ياسر محمود الذي اعتاد اصطحاب شقيقته المصابة بسرطان الثدي إلى عيادة الآلام في معهد ناصر، للحصول على دواء تخفيف الآلام، بعد رحلة علاج بالعلاج الكيماوي دامت ثلاث سنوات، حتى وصل السرطان إلى العظام ولم تعد شقيقته قادرة على تحمل الألم، عند هذا الحد بدأت الحاجة إلى العلاج التلطيفي والأدوية المخدرة كالترامادول الذي كان يصرف لها كل أسبوعين في المركز، وفي بعض الأحيان كان يصرف لها نصف الجرعة فقط نتيجة عدم توفر المسكن، ما زاد مشقة الألم عليها في أيامها الأخيرة.
ويواجه المرضى الذين يحتاجون لاصقة مخدرة، بعد أن تضعف فعالية الأقرص الفموية في التخفيف من معاناتهم، مشكلة النقص ذاتها، نتيجة قلة استيرادها منذ تعويم الجنيه وارتفاع سعر الدولار، حيث يصل سعر اللاصقة إلى 150 جنيها (9.31 دولارات أميركية)، ويمكن استخدامها لمدة 3 أيام. كما تضيف إيمان محمود.
ويؤكد الدكتور أسامة طه، أستاذ علاج الأورام بكلية طب قصر العيني التابعة لجامعة القاهرة، أن مسكنات مرضى الأورام في غاية الأهمية، ومطلوبة في كل مراحل العلاج، وتزيد أهميتها بعد انتشار الورم بالجسم إذ حينها يحتاج المريض إلى علاج تلطيفي، وتابع :"علاج المسكنات يبدأ مع المرضى تدريجيا من أول مراحل العلاج، ثم تزداد أهميته عندما يبدأ الورم في الضغط على الأعصاب".
وفي بداية المرض، يتم استخدام المسكنات البسيطة، التي لا تحتوي على كورتيزون، وعندما يزيد الألم يتم زيادة جرعة المسكن من قبل الطبيب المعالج وتتضاعف الجرعات، ثم يلجأ المريض إلى المسكنات الأفيونية، ومنها الترامادول بكل أنواعها، وهناك أدوية تعمل على الأعصاب الطرفية أو المخ نفسه، ثم في مرحلة ثالثة عندما لا تحقق مشتقات المورفين أي نتيجة، يتم اللجوء إلى علاج موضعي بالأشعة التداخلية، ويلجأ الطبيب إلى حقن العصب بالكورتيزون ثم يصل إلى مرحلة أشد وهي إماتة العصب بأشعة التردد الحراري ثم قطع مسلك أعصاب الألم في النخاع الشوكي الواصل إلى المخ وهذه عملية خطيرة، كما يوضح طه لـ"العربي الجديد"، مؤكدا أن الطبيب عليه أن يختار نوع العلاج المناسب لكل مريض.
ضوابط مشددة على "الأفيونيات"
عندما ذهبت نجاة أحمد لإعادة الأدوية المدرجة ضمن جدول المخدرات إلى المعهد القومي للأورام،بعد وفاة زوجها، لفت الصيدلاني نظرها إلى عدم كشف الأدوية للمارة، بسبب ترصد الكثير من مدمني المخدرات لمرتادي المعهد، وقد يخطفونها منها لتعاطيها.
هذا ما يزيد المخاوف من سوء استخدام المسكنات الأفيونية، بحسب الدكتور عزت، موضحاً أن مسكنات الألم الموجودة داخل المعهد القومي للأورام، ومراكز ومستشفيات علاج الأورام، لها طرق صرف مقننة بنظام محكم حتى لا يساء استخدامها، والنظام الصارم للصرف ليس فقط في معهد الأورام ومراكز الصحة بل أيضا داخل القطاع الخاص. وفقا لتوضيحه.
ويؤكد الدكتور طه أن صرف هذه الأدوية يخضع لضوابط مشددة، مشيرا إلى أن مشكلة علاج الألم تتلخص في مدى توافر المسكنات، لأنها أدوية مدرجة ضمن جدول الأدوية المخدرة، حيث يشمل القسم الأول كافة مستحضرات الكوكايين المدرجـة فـى دسـاتير الأدويـة، والتـى تحتـوى علـى أكـثر مـن 0,1% مـن الكـوكايين، ويشمل القسم الثاني، إيتورفين، وأوكسيد المورفين، وهيدرومورفون، هيدرومورفينول وغيرها من مشتقات المورفين، الممنوع تداولها في السوق الخارجية، كما أن استيراد هذه النوعية من الأدوية يحتاج إلى موافقات خاصة، إذ يستوردها معهد الأورام بشكل خاص للمرضى المترددين على المعهد، ويحصر صرفها لمرضى الأورام في المرحلة المتقدمة الذين يحتاجونها.
ويتطلب الحصول على المورفين من المريض القدوم إلى المركز العلاجي للكشف، وفتح ملف له، ويتوجب تواجد المريض بنفسه لدى صرف العلاج للمرة الأولى، ويسمح في المرة الثانية أن يستلمه أحد الأقارب من الدرجة الأولى، ثم المريض في المرة الثالثة، وهكذا تيسيرا عليه، وللتأكد من أنه لا يزال على قيد الحياة لمنع صرف الدواء لغير المستحقين، أو مرضى توفوا، أو المتاجرة به نظرا لخطورة تداول تلك الأدوية وسوء استخدامها، مع الأخذ في الاعتبار أن الإفراط في تناول المريض لها يسبب الإدمان. كما يوضح طه لـ"العربي الجديد"، بينما تعترض عادل على ذلك قائلة أن المورفينات لن تؤدي إلى الإدمان لدى المريض الذي يأخذها وفق ضوابط علاج الألم، معتبرة أن التخوف من وقوع تلك المسكنات في أيدي المتعاطين لا يعني منعها عن المريض الذي يتألم.
سوق سوداء للمسكنات
أثر إدراج الترامادول في الجدول الأول للمواد المخدرة على توفره في الصيدليات، وأصبح يباع في السوق السوداء ويهرب من الهند أو الصين، وفق الدكتور علي عبد الله، مدير المركز المصري للدراسات الدوائية والإحصاء ومكافحة الإدمان.
وتوضح منسقة الجمعية المصرية لدعم مرضى السرطان، أن مرضى الأورام الذين يشترون مسكنات الألم على نفقتهم الخاصة يجدون صعوبة في الحصول عليها من الصيدليات الخاصة، فضلا عن أن مشتقات الترامادول المتوفرة غير موثوق بها، وهناك احتمال كبير أن تكون مغشوشة، وكذلك المتوفرة في السوق السوداء، إذ يصل سعر الترامادول في السوق السوداء إلى 700 جنيه (43.43 دولارا)، بدلا من 35 جنيها (2.17 دولارا) وهو الثمن الحقيقي للعلبة التي تحتوي على 20 قرصا.
ويعزو عبدالله عدم توفر الترامادول في الصيدليات إلى صعوبة الحصول عليه من الشركة المصرية لتجارة الأدوية بعد إدراجه في جدول المواد المخدرة، إذ يحتاج إلى نماذج صرف معينة ووصفات طبية مختومة، ومستوفية لعدة شروط منها اسم الطبيب والختم وتوقيعه وبيانات المريض وتسجيل ذلك في دفتر لدى الصيدلي، وعليه أن يحتفظ بها، على أن يكون قد سجل نفسه لدى مديرية الصحة بالمحافظة التابع لها، ويكون من حقه صرف أدوية الجدول أو الأدوية المؤثرة على الحالة النفسية، ويسمح له بصرف الدواء لمدة شهر كحدّ أقصى. كما يوضح عبدالله، محذراً من الأعراض الجانبية لتلك المسكنات التي يجب أن تصرف حسب حالة المريض وتاريخه المرضي.
وتتوفر خدمات الرعاية التلطيفية حتى الآن لمرضى السرطان فقط دون غيره من الأمراض، ويتم الأمر عبر مراكز ومعاهد علاج الأورام بالمستشفيات، بحسب عزت، لافتا إلى أن ميزانية معهد ناصر ككل لا تتجاوز 80 مليون جنيه (5 ملايين دولار أميركي)، ولا تكفي سوى 20% فقط من الاحتياجات، ويتم الاعتماد على التبرعات لتعويض العجز، ويدرج العلاج التلطيفي ضمن هذه الميزانية علما أن 80% من مرضى السرطان في مصر يحتاجون إلى علاج تلطيفي.