التوازي أو التناظر مريحٌ على الصعيد الجمالي، بل هو أحد مبادئ علم الجمال في بعض الحضارات، لأنه يحقق التوازن بين جانبين، وموقفين، ونظرتين. صحيح أن بعض الثقافات مثل اليابانية لا تقيم وزناً لهذا المبدأ وتستبدله بمبدأ عماده الاختلاف وانعدام التوازن بين جانبين أو موقفين، إلا أن الإنسان عموماً يميل إلى الإعجاب بالتوازن، ولو باختراع علم للخيال، كما لو أنه ينظر إلى كفّتيْ ميزان متناظرتين على مستوى نظره، شكلاً وحجماً. ويصيبه القلق إن ارتفعت إحداهما وهبطت الأخرى.
رمز العدالة الممثل بكفّتي ميزان ليس بعيداً عن هذا، فهو يشير إلى التساوي والرسوخ والاستقرار، والأكثر أهمية أنه يضمن أن ينال كل طرف نصيبه، حين يصدر الحكم، بلا محاباة لطرف على حساب طرف آخر، بدليل المرأة حاملة الميزان المعصوبة العينين.
تحمل الكفتان توازياً بصرياً ومعنوياً، وتشيران إلى طمأنينة تستبعد القلق والاضطراب، وتضمنان الموقف الآمن أخلاقياً، للمتهمين والقضاة والشهود ورواد مسرح الحياة على اختلاف مستوياتهم، واختلاف المسرح الذي يشهدون.
على هذا يكون التوازي أو التناظر تعادلاً، أو تحقيقاً للعدالة في علم الجمال كما هو في جوانب الحياة الأخرى. فيريحنا النظر إلى جانبي مساحة يقسمها إلى نصفين خط أفقي أو عمودي، حقيقي أو وهمي، وتتوزّع على كلا الجانبين كتل أو فضاءات متساوية شكلاً أو لوناً أو حجماً.
ويبدو أن هذا المفهوم الجمالي يمتدّ شعورياً أو لا شعورياً حتى، إلى سلوك الإنسان تجاه الماضي، فيرى فيه كفة تحتاج إلى حاضر يعادلها، أو ينظر إلى الحاضر بوصفه كفة تحتاج إلى ما يعادلها في الماضي. هذا الموقف الثاني هو الغالب على الجماعة البشرية حين يضغط الحاضر بضواغطه الملموسة، الظاهر منها والخفي، بمخاوفه المتخيلة والحقيقية. إنه الكفة التي تحتاج إلى ما يعادلها، أو يوازنها، ويحقق لها الثبات والرسوخ، كضد للقلق وغير الاستقرار، والتغير والزوال.
وهكذا تبحث فكرة التوازي عن معادل لها، عن مواز في الماضي يمتلك ثقلاً يكفي لإحداث الاستقرار والرسوخ، وإشاعة الطمأنينة في جسد الأيام الحاضرة، أو اختراع هذا الثقل إن لم يكن له وجود. وهنا يتوازى الحاضر والماضي، يتوازنان، بشكل يكاد يكون لا شعورياً، كأن أحدهما (الماضي) وجه مرآة ينعكس فيه الآخر (الحاضر) بكل أبعاده.
ولأن المرآة بعدٌ خيالي، أو أن الإنسان يصل عبرها، كما وصلت "آليس" الكاتب البريطاني لويس كارول (1832-1898)، إلى عالم يمكن أن يؤمن فيه الإنسان بسبعة أشياء محالة قبل أن يتناول طعام الإفطار، يتحوّل هذا التوازي والتعادل والتناظر والاطمئنان إلى فعل خيالي، وقفز فوق مربعات رقعة شطرنج بيضاء وسوداء وحمراء وهمية.
أكثر ما يتبدّى هذا في البحث عن موازيات ومناظرات للحاضر دائماً في الماضي المغرق في القدم، ووضع الأشياء والأحداث والتطلعات والأشواق أمام مرآة. وهناك في أعماق المرآة، حتى من دون المرور خلالها، تتجسّد هذه الأشياء والأحداث والتطلعات والأشواق في تماثل تام، في صورتها المتخيلة، للصورة الملموسة (الحاضر).
في اكتشاف هذا النوع من التوازي والتناظر يستقر الإنسان وتستقر الأمم نفسياً وعضوياً، فيعكس الماضي الرغبات المحبطة في الحاضر (الانعكاس في المرآة يقلب ويعكس الأبعاد أيضاً)، ومثلما ينقلب اليمين فيظهر يساراً، كذلك ينقلب الانكسار ويظهر التئاماً، ويظهر الأسودُ أبيضَ، وتبدو صورة الذات الفردية والذات الجماعية زاهية، وتتحقق العدالة.. والجمال.. وتستعاد الكرامة.. ولو في مرآة.