قال نيكيتيتش: كنت متيقناً من أنك تكتب. لديك هذه النظرة التي للكتّاب، فنظرتك تائهة دائماً.
قرأ مسرحيتي وهز كتفيه، ومر بأصابعه بين خصلات شعره المتيبسة الرمادية، وهو يخطو في عليته جيئة وذهاباً. كان يقول بصوت خفيض متوقفاً بين كلمة والأخرى:
- لا بد من أن موهبة إلهية بداخلك حقاً.
وخرجنا معاً إلى الشارع. توقف العجوز، وأخذ يطرق عصاه بالرصيف بقوة وهو يُحدِّق فيّ.
- تُرى ما الذي ينقصك؟ ليست المشكلة في أنك لا زلت يافعاً، فسوف تكتسب الخبرة بمرور الوقت، لكن الشعور بالطبيعة هو ما ينقصك.
وأشار لي بعصاه إلى شجرة واطئة ذات جذر ضارب إلى الحمرة.
- ما نوع هذه الشجرة؟
ولم أكن أعرف.
- ما الذي ينمو داخل هذه الأجمة؟
ولم أعرف ذلك أيضاً. ثم سرنا معاً عبر الميدان الموجود بحي ألكسندروفسكي، وكان العجوز يصدم بعصاه كافة الأشجار الموجودة بالمكان، وكان يمسكني من كتفي كلما طار بالقرب منا طائر في السماء، ويجعلني أنصت لصوت كل طائر.
- بم ينشد الطائر؟
ولم أستطع أن أجيب بشيء؛ لا عما يخص أسماء الشجر والطيور، ولا عن أنواعها المختلفة، ولم أكن أعرف إلى أين تطير هذه الطيور، ومن أين تشرق الشمس، ومتى يزداد الندى قوة.... لم أكن أعلم شيئاً عن كل ذلك.
- ومع ذلك تجازف بالكتابة؟ الكاتب الذي لا يمكنه أن يعيش في قلب الطبيعة كما يعيش الحجر أو الحيوان، لا يمكنه أن يكتب سطرين حقيقيين. يشبه وصف الطبيعة لديك وصف الديكورات والزخارف. اللعنة! فيم كان يفكر والداك طوال هذه الأعوام الأربعة عشر؟
■■■
قلت للشيخ: ريب آري ليب... دعنا نتحدث عن بينيا كريك. لنتحدث عن بدايته السريعة المفاجئة، ونهايته المفزعة. ثمة ثلاث ظلال تعوق طريق أفكاري. هناك فرويم غراتش ذراعه اليمين. أليس من الممكن أن نقارنه بقوة الملك؟ وهناك كولكا باكوفسكي. إنه يحوي بداخله من الجنون ما يكفيه كي يسود على الجميع. ألم يكن حاييم درونغ قادراً على تبين أي نجم جديد في السماء؟ لماذا تربع إذن بينيا كريك وحده فوق قمة سلم رجال العصابات، وهبط الجميع لأسفل واقفين على درجات متقلقلة؟
صمت ريب آري ليب وهو يجلس على حائط المقابر. وكان هدوء المقابر الأخضر يمتد أمامنا. على من يريد أن يحصل على إجابات أن يتحلى بالصبر، بينما ينبغي أن يشعر العارف بالإجابات بالأهمية. لذلك صمت آري ليب وهو جالس على حائط المقابر.
أخيراً قال: أتريد أن تعرف لماذا هو وحده دوناً عن الآخرين؟ حسناً... عليك أن تتناسى لبعض الوقت أن لديك نظارة فوق أنفك وخريفا داخل قلبك. انس أنك قادر فقط على الشجار عندما تكون خلف مكتبك، وبالخارج لست قادراً على شيء سوى بعض التمتمة الجبانة. تخيل للحظة أنك تقوم بالعكس... أنك تتشاجر بالميادين، وخلف المكتب لا تفعل شيئاً. أنت نمر... أنت أسد... أنت قطة... يمكنك أن تمضي ليلتك مع امرأة روسية، وتخيل أنك قادر على إشباعها. أنت تبلغ من العمر خمسة وعشرين عاماً.
تخيل أنه إن كانت هناك حلقات تُمسك بالسماء والأرض، فبإمكانك أن تمسك بها وتشدها حتى تُطبق السماء على الأرض. وتخيل أن أباك هو الحوذي والحمَّال مندل كريك. وفيم يُفكِّر هذا الأب؟ إنه لا يفكر سوى في شرب أكبر كمية ممكنة من الفودكا، وتحطيم فك أحدهم، ويفكر أيضاً في جياده، ولا شيء آخر.
أنت تريد أن تعيش وهو يجبرك على أن تموت عشرين مرة في اليوم. ماذا كنت ستفعل لو كنت في مكان بينيا كريك؟ لم تكن لتفعل شيئاً. أما هو فقد فعل. ولذلك فهو الملك، بينما أقصى ما يمكنك أن تفعله هو أن تقوم بكذبة تافهة.
* رغم مكانته في كتابة القصة الروسية، بقي اسم إسحاق بابل (1894 - 1940) غير معروف عربياً. مؤخراً صدرت مجموعته "حكايات من أوديسا"؛ إحدى أبرز أعماله بالعربية، بترجمة يوسف نبيل، ومنها اخترنا هذه القصّة.