13 أكتوبر 2024
يحدث في آخر معاقل السلم والوطنية باليمن
كأنهما وصيتان جديدتان مطلقتا الصلاحيات، تتصرف اليوم السعودية والإمارات بشأن كل ما له علاقة باليمن بمقتضى مصالحهما المستقبلية في اليمن وفي المنطقة العربية. ولم تكتفيا بنهب ثروات اليمن، بل كرّستا في المدن اليمنية المحرّرة واقعاً متشظياً، يديره وسطاؤهما المحليون، ثم عملتا على تعميق شرذمة الخارطة اليمنية، عبر عزل المدن اليمنية عن بعضها. أسفر نهج دول التحالف العربي، وأداء أطراف الصراع اليمنية، طوال الحرب، عن تحويل اليمن إلى جيتوهات متعدّدة، معزولة ومتمايزة اجتماعياً واقتصادياً. وتجاوزت أبعاد سياسة الدول المتدخلة في اليمن حالياً استنزاف الموارد الطبيعية في اليمن إلى منازعة اليمنيين أراضيهم التاريخية، كادعاء الإمارات، عبر إعلامها، الحق في جزيرة سقطرى، بعد نهبها ثرواتها، ومطالبتها ترتيب استفتاء شعبي في الجزيرة، لكن الأكثر خطورةً مما يحدث اليوم في مدينة عدن، من فرض وكلاء الإمارات أمرا واقعا على السلطة الشرعية، هو سعي دول التحالف إلى تخليق بؤر طائفية في المناطق التي طالما كانت محصنةً ضد كل أشكال التطرفات المذهبية والاجتماعية والسياسية في اليمن.
تبرز مدينة المهرة اليوم ساحة مرشحة للعنف، جراء حدّة الأجندات السعودية والإماراتية التي تستهدف أمن المدينة وبنيتها الاجتماعية المسالمة، فالمدينة، الواقعة شرق اليمن على حدود سلطنة عمان، نجت من الهزّات السياسية العاصفة التي شهدتها اليمن طوال العقود السابقة، بما فيها الحرب الحالية، أصبحت اليوم مرشحةً أكثر من أي وقت مضى لسيناريوهات مظلمة، قد تعصف بكيانها الاجتماعي والسياسي المسالم، وقد تزج سلطنة عُمان في هذا الصراع لتأمين مجالها الحيوي، إذ تؤكد مجمل التعزيزات العسكرية والأمنية للتحالف العربي التي تصل يومياً إلى مدينة المهرة، وكذلك شراء ولاءات الزعامات التقليدية في المدينة، أن السعودية والإمارات ستزجّان المهرة في أتون صراع، وستعملان على تحويل المدينة إلى بؤرة للعنف الطائفي، وكذلك منطلقاً لتهديد الدول المجاورة لفرض شروطها الإقليمية.
منذ تدخلها العسكري في اليمن، فشلت السياسة الإماراتية في ضم مدينة المهرة إلى خريطة
نفوذها في جنوب اليمن، إذ اصطدمت التوجهات الإماراتية بجليد السلطة المحلية في المهرة، حيث تعاطت بحذر مع أي معوناتٍ اقتصادية إماراتية أو تفاهمات أمنية، فعلى عكس مدن جنوبية أخرى، أدارتها الإمارات بتشكيلات عسكرية وأمنية تابعة لها، ثم من خلال سلطة جنوبية طارئة، كالمجلس الانتقالي، لم تُجدِ هذه الطرق لاستمالة الإمارات القوى الاجتماعية والسياسية التي تحكم المهرة، فقد قاومت التدخلات الإماراتية الأمنية والعسكرية في شؤون المدينة، ولم تتجاوب مع مشاريع المجلس الانتقالي الجنوبي، منسجمة مع روح أهالي المدينة الرافض كل أشكال العصبويات السياسية والاجتماعية والدينية، بما فيها المشاريع الجنوبية المختلفة، وبالتالي ظلت المهرة صخرة وحيدة تحطمت عليها الأطماع الإماراتية وأجندات وكلائها المخلصين.
وفي سباق التنافس السعودي - الإماراتي لتخليق محميات نفوذ مغلقة في الأراضي اليمنية، أدركت السعودية أن حظوظها في مدينة المهرة أكثر من حليفها الإماراتي، معتمدة على طرق ملتوية في مد نفوذها داخل المدينة، إذ استخدمت السعودية أشكال تدخلها التقليدي التي طالما اتبعتها في جميع الدول العربية والإسلامية، وذلك باستخدام المعونات والإغاثة غطاءً سياسيا لتنفيذ أجنداتها، وما يصاحب ذلك من نشر مذهبها الوهابي، إلا أن النسيج الاجتماعي المتسامح الذي ميز مدينة المهرة عن سواها من المدن اليمنية لم يتقبل المذاهب الدينية الطارئة على المدينة، فلجأت السعودية، كعادتها، إلى توظيف علاقتها ببعض القبائل في المهرة أداة اجتماعية لمد نفوذها في المدينة.
التزمت السلطة المحلية، وكذلك معظم القوى السياسية والاجتماعية في المهرة، سياسة النفس الطويل في تعاطيها مع أشكال التدخلات السعودية والإماراتية في المدينة، إذ شكلت المهرة حالة وطنية وسياسية فارقة في تاريخ الحرب في اليمن، باعتبارها منطقة مغلقة أمام الأجندات المحلية والإقليمية المتصارعة، لكن تجاهل السلطة الشرعية مقاومة سلطة المهرة، ومصادرة دول التحالف العربي القرار الوطني داخل الشرعية، جعل من سلطة المهرة وحيدةً في مواجهة حدّة الأجندات السعودية والإماراتية، فعلى الرغم من رفضها استقبال قوة عسكرية تمثل التحالف العربي لإدارة ميناء "الغيظة"، واشتراطها أن لا تكون المدينة منطلقاً لعمليات عسكرية، وأن تكون القوة العسكرية مشكلةً من أبناء المدينة، إلا أن لا قرار وطنيا يمنيا يمكنه عرقلة ما تريده السعودية والإمارات في المهرة وفي اليمن، وهو ما أدى إلى إقالة المحافظ، وتعيين محافظ جديد أصبح غطاءً لتنفيذ الأجندات السعودية والإماراتية في المهرة.
بذريعة محاربة "تهريب الأسلحة إلى الحوثيين"، تقاطعت الأجندات السعودية والإماراتية
ظاهرياً فقط، وذلك لتركيز ثقلها العسكري في مدينة المهرة، على تخوم سلطنة عمان، بما يفوق أي مدينةٍ يمنيةٍ أخرى من مدن المواجهات، إذ ترقى التعزيزات العسكرية الضخمة، بحسب متابعين، إلى تأسيس قاعدة بحرية، وتتفق الأجندة السعودية والإماراتية على أن حضورهما العسكري والسياسي في المهرة ينازع سلطنة عُمان نفوذها التاريخي في منطقة تمثل مجالاً حيوياً لها، وذلك للضغط سياسياً على السلطنة التي التزمت الحياد، سواء في حرب اليمن، أو في الصراع الخليجي، حيث إن مكوث السعودية والإمارات أسفل حدود عُمان يشكل تهديدا دائما قد يحملها، في النهاية، على تغيير سياستها في المنطقة العربية، إلا أن أجندات الدولتين تتمايزان في الأهداف الأخرى من ضم المهرة إلى نفوذهما.
تهدف الإمارات في تكريس حضورها في مدينة المهرة لدوافع اقتصادية، فالمدينة تمتلك موارد اقتصادية متعددة، بما فيها محميات طبيعية، إضافة إلى، وهذا الأهم، بسط نفوذها في جميع مدن الجنوب، ما يجعلها القوة الإقليمية الوحيدة التي ستقرر صياغة مستقبل جنوب اليمن. أما الأهداف الاستراتيجية السعودية في مدينة المهرة فتنبع من سياق مخططاتها الكلية في اليمن، إذ مثّل بُعد المهرة عن الصراع الدائر في مدن المواجهات والمناطق المحرّرة، وكذلك طبيعة أهلها وقواها السياسية والاجتماعية المسالمة، إغراءً للسعودية في تنفيذ مشاريعها في اليمن؛ فعلى مدى أشهر، حولت السعودية مساحاتٍ شاسعةً من مدينة المهرة إلى بؤر دينية واجتماعية دخيلة على أبناء المدينة، عبر شرائها الأراضي والمنازل، وتوطينها مئات من المقاتلين السلفيين: يمنيين، وسعوديين ومن جنسيات عربية أخرى، بحسب معلوماتٍ من أهالي المنطقة، كما أسست مركزا سلفيا في مديرية قشن، وهو أول مركز سلفي في المدينة، الأمر الذي تنبهت له بعض القوى المحلية في المهرة، مثل احتجاج نساء المدينة قبل أشهر على عملية توطين المقاتلين القادمين من خارج المدينة، لأثره في النسيج الاجتماعي في المهرة، ولأن بؤرا طائفية ستدخل المدينة في دورة عنف في المستقبل.
يمضي الأوصياء الجدد باليمن إلى تخوم الكارثة، غير آبهين بشيء، فيما تحضر كلمات النشيد الوطني اليمني "لن ترى الدنيا على أرضي وصياً"، خلفية ساخرة لمفارقات يعيشها اليمنيون، فكلمات النشيد التي تترجم تضحيات شهداء الثورات المتعاقبة، وهم يشقون خطى نضالهم الوطني عبر عقود، رافضين وصاية الغرباء على اليمن واليمنيين، لن تثير في جيل الحرب والأجيال اللاحقة سوى مذاق المرارة، وهم يرون بلادهم تباع لتجار التجزئة، وربما شعوراً عارماً بالسخرية والغضب.
تبرز مدينة المهرة اليوم ساحة مرشحة للعنف، جراء حدّة الأجندات السعودية والإماراتية التي تستهدف أمن المدينة وبنيتها الاجتماعية المسالمة، فالمدينة، الواقعة شرق اليمن على حدود سلطنة عمان، نجت من الهزّات السياسية العاصفة التي شهدتها اليمن طوال العقود السابقة، بما فيها الحرب الحالية، أصبحت اليوم مرشحةً أكثر من أي وقت مضى لسيناريوهات مظلمة، قد تعصف بكيانها الاجتماعي والسياسي المسالم، وقد تزج سلطنة عُمان في هذا الصراع لتأمين مجالها الحيوي، إذ تؤكد مجمل التعزيزات العسكرية والأمنية للتحالف العربي التي تصل يومياً إلى مدينة المهرة، وكذلك شراء ولاءات الزعامات التقليدية في المدينة، أن السعودية والإمارات ستزجّان المهرة في أتون صراع، وستعملان على تحويل المدينة إلى بؤرة للعنف الطائفي، وكذلك منطلقاً لتهديد الدول المجاورة لفرض شروطها الإقليمية.
منذ تدخلها العسكري في اليمن، فشلت السياسة الإماراتية في ضم مدينة المهرة إلى خريطة
وفي سباق التنافس السعودي - الإماراتي لتخليق محميات نفوذ مغلقة في الأراضي اليمنية، أدركت السعودية أن حظوظها في مدينة المهرة أكثر من حليفها الإماراتي، معتمدة على طرق ملتوية في مد نفوذها داخل المدينة، إذ استخدمت السعودية أشكال تدخلها التقليدي التي طالما اتبعتها في جميع الدول العربية والإسلامية، وذلك باستخدام المعونات والإغاثة غطاءً سياسيا لتنفيذ أجنداتها، وما يصاحب ذلك من نشر مذهبها الوهابي، إلا أن النسيج الاجتماعي المتسامح الذي ميز مدينة المهرة عن سواها من المدن اليمنية لم يتقبل المذاهب الدينية الطارئة على المدينة، فلجأت السعودية، كعادتها، إلى توظيف علاقتها ببعض القبائل في المهرة أداة اجتماعية لمد نفوذها في المدينة.
التزمت السلطة المحلية، وكذلك معظم القوى السياسية والاجتماعية في المهرة، سياسة النفس الطويل في تعاطيها مع أشكال التدخلات السعودية والإماراتية في المدينة، إذ شكلت المهرة حالة وطنية وسياسية فارقة في تاريخ الحرب في اليمن، باعتبارها منطقة مغلقة أمام الأجندات المحلية والإقليمية المتصارعة، لكن تجاهل السلطة الشرعية مقاومة سلطة المهرة، ومصادرة دول التحالف العربي القرار الوطني داخل الشرعية، جعل من سلطة المهرة وحيدةً في مواجهة حدّة الأجندات السعودية والإماراتية، فعلى الرغم من رفضها استقبال قوة عسكرية تمثل التحالف العربي لإدارة ميناء "الغيظة"، واشتراطها أن لا تكون المدينة منطلقاً لعمليات عسكرية، وأن تكون القوة العسكرية مشكلةً من أبناء المدينة، إلا أن لا قرار وطنيا يمنيا يمكنه عرقلة ما تريده السعودية والإمارات في المهرة وفي اليمن، وهو ما أدى إلى إقالة المحافظ، وتعيين محافظ جديد أصبح غطاءً لتنفيذ الأجندات السعودية والإماراتية في المهرة.
بذريعة محاربة "تهريب الأسلحة إلى الحوثيين"، تقاطعت الأجندات السعودية والإماراتية
تهدف الإمارات في تكريس حضورها في مدينة المهرة لدوافع اقتصادية، فالمدينة تمتلك موارد اقتصادية متعددة، بما فيها محميات طبيعية، إضافة إلى، وهذا الأهم، بسط نفوذها في جميع مدن الجنوب، ما يجعلها القوة الإقليمية الوحيدة التي ستقرر صياغة مستقبل جنوب اليمن. أما الأهداف الاستراتيجية السعودية في مدينة المهرة فتنبع من سياق مخططاتها الكلية في اليمن، إذ مثّل بُعد المهرة عن الصراع الدائر في مدن المواجهات والمناطق المحرّرة، وكذلك طبيعة أهلها وقواها السياسية والاجتماعية المسالمة، إغراءً للسعودية في تنفيذ مشاريعها في اليمن؛ فعلى مدى أشهر، حولت السعودية مساحاتٍ شاسعةً من مدينة المهرة إلى بؤر دينية واجتماعية دخيلة على أبناء المدينة، عبر شرائها الأراضي والمنازل، وتوطينها مئات من المقاتلين السلفيين: يمنيين، وسعوديين ومن جنسيات عربية أخرى، بحسب معلوماتٍ من أهالي المنطقة، كما أسست مركزا سلفيا في مديرية قشن، وهو أول مركز سلفي في المدينة، الأمر الذي تنبهت له بعض القوى المحلية في المهرة، مثل احتجاج نساء المدينة قبل أشهر على عملية توطين المقاتلين القادمين من خارج المدينة، لأثره في النسيج الاجتماعي في المهرة، ولأن بؤرا طائفية ستدخل المدينة في دورة عنف في المستقبل.
يمضي الأوصياء الجدد باليمن إلى تخوم الكارثة، غير آبهين بشيء، فيما تحضر كلمات النشيد الوطني اليمني "لن ترى الدنيا على أرضي وصياً"، خلفية ساخرة لمفارقات يعيشها اليمنيون، فكلمات النشيد التي تترجم تضحيات شهداء الثورات المتعاقبة، وهم يشقون خطى نضالهم الوطني عبر عقود، رافضين وصاية الغرباء على اليمن واليمنيين، لن تثير في جيل الحرب والأجيال اللاحقة سوى مذاق المرارة، وهم يرون بلادهم تباع لتجار التجزئة، وربما شعوراً عارماً بالسخرية والغضب.