الشعوب تخلق الأساطير لغايات كثيرة، منها تأريخ الماضي ورسم بعض آفاق المستقبل، ومنها امتلاك خلفية، غالباً ما تكون مؤطّرة برموز ودلالات، لإضفاء هالة من القوة والغموض على منشئها وتطلعاتها. هنالك أيضاً أفراد يصنعون الأسطورة، وفي بعض الأحيان، يتحوّلون هم أنفسهم إلى أسطورة، دون إرادتهم، لتكشفهم الأجيال اللاحقة صدفة، أو أنّ ما تركوه من أثر، يأبى إلا أن يظهر إلى العيان في يوم ما، مثل أسطورة أبو العبد الفلسطيني.
يحكى أنّ أبو العبد وصل إلى بلدتنا في شمال حلب عام 1948. كان قد قطع تلك المسافة الطويلة على مراحل، مشياً على الأقدام، وأحياناً على متن جرارات زراعية، في المقطورة بين أكياس القمح والشعير، هو وزوجته وابنه الرضيع عبد الله.
ويُحكى أيضاً أنه استأجر بيتاً، واعتزل في إحدى غرفه يقرأ كتباً بلغات مختلفة، لمدة عام تقريباً، قبل أن يخرج ويبدأ تلك المشية الغريبة، بين الحُفر حيث كان يتخطاها جيئة وذهاباً عدة مرات قبل أن يتابع طريقه.
كان أكثر ما يثير الدهشة في سلوكه ذاك، ما يتردّد على ألسنة الناس من أنّه كان يرى في تلك الحفر إخوته أو أقاربه الذين ذُبحوا على أيدي العصابات الصهيونية من الهاغانا والأرغون في دير ياسين أو ربما كفر قاسم، رغم أنه، في الأيام القليلة التي يرتاد فيها المقهى، كان يقول إن قريته تُدعى خربة البرج وتقع في قضاء حيفا.
أمام صمت أبو العبد والأقاويل التي كانت تنتشر كما النار في الهشيم بعد النكبة، وصلت قصّته إلى دوائر السلطة، واستُدعي للتحقيق أكثر مرة لمعرفة لغز تلك المشية الغريبة التي كانت تثير الشبهات.
لا يُعرف فيما إذا كانت تلك التحقيقات تضمّ في ما تضم إهانات مصحوبة بالصفعات والركلات و"الفلقة" بقضيب الخيزران، ولكن من المؤكد أنه لم يتعرّض لأصناف التعذيب الحديثة من "الشبح" إلى "الكرسي الألماني"، لأن تلك الوسائل لم تكن بعد في متناول يد زبانية ذلك العهد.
بعد كل مرة يخرج فيها من أقبية المخابرات، كان أبو العبد يكتسب نوعاً ممّا نسميه اليوم "وعي الذات"، أي أنه، لحسن الحظ، كان يبدو وكأنه بدأ يعي حجم المصيبة التي حلّت به وبشعبه وأرضه.
لم يتمكّن أبو العبد من القيام بعمل مهمّ في حياته، سوى بعض الابتكارات في البيع والشراء لتوفير المعيشة لعائلته التي كان يزداد عددها سنة بعد سنة، من بينها تحضير وبيع صواني "الكنافة النابلسية" في البازار، أو المساهمة في بيع البرتقال اليافاوي الذي كان، حسب الأقاويل، يجلبه من يافا مباشرة، رغم أن أحداً لم يتساءل في يوم ما كيف كان يصل إلى بيارات البرتقال في الشمال الفلسطيني وكيف كان يتمكّن من الإفلات من حرس الحدود والجنود المنتشرين على خط الجبهة.
لعلّ التغيير الفجائي الذي ألمّ بشخصية أبو العبد كان مردّه إلى الاعتقال الأخير الذي تعرض له بعد هزيمة حزيران 1967. في تلك الفترة، راجت إشاعات عن جواسيس ينتشرون في كل مكان، حتى في القرى الصغيرة، لنقل كل ما يشاهدونه ويسمعونه إلى العدو الصهيوني.
أكثر من طائرة زراعية ألقت مناشير فوق المدن والمناطق السورية تحذّر الأهالي منهم وتقول بالحرف الواحد: احذروا، فالجدران لها آذان أيضاً. وتحت العبارة رسم عفوي لعدة أشخاص يتكلّمون بصوت عال وآذان كبيرة تحيط بهم من كل الجهات.
هذه التحذيرات التي كانت تهطل علينا من السماء، ربما كانت البداية لتكميم الأفواه الذي لا يزال مستمراً ليومنا هذا.
خرج أبو العبد من معتقله المجهول بعد عدة أشهر، وبدأ الناس يروون قصصاً عجيبة عن تجسّسه وإرساله معلومات للعدو عن طريق جهاز لاسلكي صنعه بنفسه، مستدلّين على ذلك من عادته الغريبة في التقاط كل ما كان يراه في الشوارع من براغي ومسامير وأسلاك نحاسية وقطع حديدية بالية.
لم يجابهه أحد بلقبه الجديد، "أبو العبد الجاسوس"، وجهاً لوجه، ولكن يبدو أنه كان يخمّن ذلك من نظراتهم. كان يشيح وجهه ويضحك خلسة، وأحياناً كان يستدير ويصرخ: بالكفاح المسلح سنحرّر أرضنا! ثم يمضي في طريقه هائجاً كطريدة تبحث عمّن ينقذها من ملاحقة الصبية والشبّان العاطلين عن العمل.
بعد عام تقريباً، اختفى أبو العبد وأولاده الأربعة، وبقيت الأم وحدها في البيت. بين فترة وأخرى، كانت تحضر إحدى ابنيتها المتزوّجتين في لبنان لزيارتها، وقلّما كانتا تخرجان إلى السوق أو لزيارة الجيران. عندما جلب أحد الجنود القادمين من دمشق نسخة من مجلة "العربي" تحتوي على استطلاع عن "الفدائيين في غور الأردن"، اكتشف أحدهم عبد الله في إحدى الصور، مع أن المجلة كانت قد أخفت عيون المقاتلين بشريط أسود مستطيل.
بعد هذا الاكتشاف الخطير، سرت شائعة أكّدها أكثر من "مصدر مطّلع" أن أبو العبد يرأس منظمة فدائية لتحرير فلسطين، ولهذا كان يحمل ذلك المفتاح الكبير في رقبته. وعزّز هذه الشائعة اختفاء بعض الشبان الذين كان أبو العبد يلتقي بهم سراً خلف مزار الشيخ عزام ويلقنهم أفكاراً ثورية. رجال المخابرات داهموا بيوت هؤلاء فجراً واقتادوا آباءهم للتحقيق.
بعد معارك أيلول الأسود عام 1970، رجع أبو العبد إلى البلدة وهو يحمل في رقبته خمسة مفاتيح. كان يبدو هرماً ويمشي وهو يترنّح كالسكّير. لم يجرؤ أحد على سؤاله عن مصير أولاده، إلا أن بعض المغامرين من الشبّان الثوريين تمكنوا من الحصول على صحف ومنشورات مهرّبة من بيروت توثّق استشهادهم في الأردن.
مات أبو العبد في يوم شتوي قارس بعد فترة قصيرة من عودته، فقيراً ومعدماً، مثلما كان حاله يوم وصوله إلى البلدة، ودفن باحترام بالقرب من مقبرة الأرمن، بعد أن نال بامتياز، خاصة بين الشباب، لقب "أبو الكفاح المسلّح".
* كاتب سوري مقيم في إيطاليا