في رواياتٍ تأخذ جانباً من الفنون موضوعاً لها، نتساءل عمّا تحرضه لدى القارئ. إذ كثيراً ما تأخذ هذه الأعمال بُعداً مثالياً يطمح إليه الناس الموهومون بالمثالية، كما لو أنّها تشير إلى زيفهم وتقوم بتعريته. وبهذا تتّسم الأعمال التي تَعرض مثالاً جمالياً أو فكرياً، بواحدة من سمات الكتابة الناجحة وهي صناعة الإشكاليات وجعل المُثُل قلقةً.
ما يربط القارئ بالنص ليس اللوحة أو المنحوتة، ليس مثال الفنان أو الفيلسوف، وإنّما التساؤلات التي تأخذ بالظهور لدى القارئ؛ كيف للجمال أن يهزّنا، خصوصاً في حياة يهيمن عليها القبح، وكيف لنا بعد أن نستجيب على نحو سامٍ لنزعات جمالية أن نستسلم ونرتدّ. ثمة روايتان من الأدب الإنكليزي، تجيب كلّ منهما على جانب من هذه الأسئلة، إذ في رواية "صورة دوريان غراي" لأوسكار وايلد، يَفتن جمالُ الفتى دوريان رسّاماً، فيرسمه بحضور صديقهم هنري، الذي يرى أنّ الجمال والشباب هما أثمن ما يمتلك المرء. تحت سطوة اللوحة وحديث هنري يتمنّى دوريان أن يخسر روحه مقابل أن يحافظ على جمالهِ، ليجد نفسهُ في اختبارات دائمة لتغيير قاتم.
نرى كيف ينمو القبح في داخلهِ، إلى أن ينتهي قاتلاً، بقتلهِ الرسّام. ثمّ في لحظة استيقاظ لفطرته القديمة يمزّق دوريان اللوحة، فتعود اللوحة التي شاختْ شابّةً، فيما تشيخ ملامحهُ ويموت. عبر مشهد الانقلاب البارع - إذ بطعن دوريان للّوحة يموت هو - يُلخّص وايلد المسألة برمتها، فقد كان بطله، بإشراقاتهِ، يستعيرُ حياة اللوحة.
كذلك في رواية "رودريك هدسن" لهنري جيمس نجدُ بناءً مماثلاً، إذ يكتشف رولاند موهبة نحّات، هو رودريك. يأخذه من أميركا إلى إيطاليا كي يصنع التماثيل. وهناك يخوض النحّات صراعات الإلهام. إذ اقترنت السعادة لديه بصناعة التماثيل، سوى أنّه يبحث عن الإلهام خارج وطنهِ وخارج ذاتِه. بالتالي، يحكم على نفسهِ بالشقاء؛ عندما يرى كريستينا يصر على صناعة تمثال لها، إذ يجد جمالها مثالياً، يصفها بأنّها إلهة. يحذّره رولاند من أنّ الجمالَ الخالد تجسيدٌ للشّر، بهذا ما إن ينتهي رودريك من صنع التمثال يفقد إلهامهُ، ويبدأ بخسارة كلّ شيء في سعيه للعثور على إلهام جديد. يخسر إيمان الآخرين بهِ، وهو الأمر الذي دفعه منذ البداية في درب العظمة، ومن ثمّ يفقد حياتهُ جرّاءَ شغفٍ مهدور.
إن كان الجمال هو ما أودى بدوريان فإنّ الإلهام هي ما أودى برودريك، مع الإشارة إلى القلب الميّت الذي تمتّع بهِ كلاهما. يعرف القارئ لحظات مضطربة كثيرة في قصّتين تنجمان عن حسّ مأساوي. ولو أنّ موضوعهما بظاهرهِ، هو الفن. لكن جيمس ووايلد يتخفّيان برقّة وراء أحاديث عامرة عن الحبّ، عن ضرورتهِ، عن كونه المعنى الذي يمنح الفنّ، كما يمنحُ الحياة معناها.
عدا عن المتعة التي ينطوي عليها العملان، يتأمّل القارئ ذلك النزوع الإنساني إلى التخريب، وعبر التخريب السعي إلى ابتكار التجربة، ومن ثمّ تصديرها في الكتابة أو في الفن. كما لو أنّنا نعي أهمية الجمال في اللحظة التي نهدره فيها.
ترصد هذه الأعمال مسار صناعة المثال ومن ثمّ تحطيمه؛ إذ ما إن يُتوَّج المثال، تصوِّر درب انحدارهِ. ترسم ذلك المنحني الذي يثب في ذهن القارئ وثبة كاملة. في غمرة الوثبة تتعالى لدى القارئ تصوّرات برّاقة، لكن عندما يصل الذروة، يكتشفُ القارئ ضعفه وعمق انتكاسات الواقع في داخله، لينتظر، من غير أن يعي، انتصار الواقع في الفن أيضاً. يتوقّع انطفاء الرغبة وانخطاف النجم، فالوصول إلى النتيجة الهانئة بأنّ الجمال لا يقيم وإنّما يمرّ مرور الشُهب.
* كاتب من سورية