تقف هذه الزاوية مع الكتّاب العرب في يومياتهم أثناء فترة الوباء، وما يودّون مشاركته مع القرّاء في زمن العزلة الإجبارية.
يمكننا الآن أن نلتقط صورة للعالم، وستكون هذه المرة حقيقية وحزينة في آن؛ حقيقية بعد أن تعرّت الأرض وفوقها الإنسان مجردا في مواجهة المجهول، سقطت كل الأشياء التي توهمنا يومًا أنها هي التي تُشكل الحياة، أو هي الحياة ذاتها.
المنجز الحضاري، والتقدم العلمي الذي لم يكن ينقصه شيء سوى تصنيع الروح في المعامل، صار هزيلًا وبائسا، لا حول له ولا قوة أمام شيء هلامي لا يُرى بالعين المجردة. لقد نطق "ترامب" كلمة الله ربما للمرة الأولى في حياته، داعيًا متوسلًا، بعد أن فشلت جميع أسلحته أمام قوة الفيروس الطاغية، نطقها أخيرًا رئيس الدولة الأميركية التي "لم تحارب ولن تحارب يومًا من أجل السماء".
يا لها من حياة عجيبة مدوخة؛ لقد احتلت الماعز البري إحدى مدن الجانب الشرقي لبريطانيا العظمى، هذه الدولة الإسمنتية، الضبابية التي لم تعرف يومًا معنى للروح، فيما يتجول البط في شوارع باريس في هدوء ودلال كنساء جميلات خرجن في نزهة، وفي وسط القاهرة تجلس جماعات من الكلاب في عذوبة وجمال آسر، وكأنها تقول: أخيرًا رحل البشر من هنا. توقفت الحشود البشرية عن الجري واللهاث نحو اللاشيء، وأوى كل إلى بيته، وكان عليّ أنا أيضًا العودة. هذا البيت الذي كتبت عنه في ديواني الأول "غرباء علقوا بحذائي": البيت هو نهايتي، أتخيل دائما، بالكثير من الكآبة، أنني إذا أقمت في بيت يخصني؛ فسيأتي شخص ما، ليطلق الرصاص عليّ، أو على الأقل، يمكنه أن يُفتش في، وقتها فقط سيعرف، أنني الكتلة الوحيدة التي يسهل التخلص منها!".
وفي نص لاحق كتبت: الثمرة الناضجة فم مغلق، والبيت يسكنه الشيطان" عداء منيع مع فكرة البيت، إنه النهاية بالنسبة لي، بالأحرى، تمرين جيد للذهاب إلى القبر، والشعراء لا يحبون القبور، لا يحبون النهايات، من المفترض أننا نحب الحياة، إنها ساحتنا المفتوحة التي نتجول فيها، نمشي، نكتشف، نغامر، نفتح الأماكن المغلقة، لا نحب النهايات بل نسعى إلى السفر إلى أماكن مجهولة، دائما نريد المزيد، لا نحب التوقف، لكن كيف يحدث ذلك بعد أن أصبح البيت ملاذنا الوحيد! هناك شيء لا يمكن منعه، ولا يمكن قتله، إنه الحلم. إنني أعيش في عالم الأحلام، كل الأشياء صارت معرضه للخطر، ما عدا الحلم، حيث لا يمكن القبض عليه.
أرفض الواقع، ولا أعيره اهتمامًا، وأسافر مع الأحلام إلى عوالم أخرى. الفن من صُنع الخيال، والخيال رحمة كبيرة، فعندما أغرق في التفكير في ضحايا الفيروس الذين يموتون بلا وداع في مستشفيات العزل الصحي، أحاول أن أتخيل أنهم ذهبوا في رحلة إلى عالم آخر، أكثر إنسانية ورحمة، لا أتخيل بل أصدّق ذلك. الخيال رحمة وحرية.
لا أتوقف عن الحلم ولا أتوقف عن القراءة، وطرح التساؤلات حول ثنائية الحياة والموت، حول الحضارة، والحياة البدائية؛ أقول لنفسي: لماذا حدث كل هذا؟ لماذا صنعنا الحضارة؟ الآن صرت شغوفة بعالم الحيوان، والنبات، وعلم الوراثة، وكوكب الأرض، كيف كان؟ وماذا صنعنا به؟ أقرأ عن البدائية، والزمن والتاريخ وطبيعة الحياة، وأسرار النوم والأحلام، وأتأمل ما كتبه المفكر الإيطالي إيمانويلي كوتشا حول فيروس كورونا، ورؤيته العميقة لفكرة التطوّر، فهو يقول: "لا يمكن اعتبار الإنسان أكثر جدارة من باقي الكائنات الأخرى، لأنّه لا وجود للإنسانية، فهذه الأخيرة مجرّد "فرانكنشتاين" مركّب من كائنات حيّة أخرى. إنّها حالةُ تجميعٍ مؤقّتٍ لحياةٍ هي نفسها موجودة في كلّ مكان. لذلك يحقّ للبشر أن يأكلوا كلّ شيء، مثلما للفيروس الحقّ في تدمير كلّ شيء".
هذا المركّب الذي تحدث عنه كوتشا أسعى إلى معرفته، وأثناء ذلك أشعر بحرية عارمة. لا أنشغل كثيرًا بمتابعة أخبار الفيروس، لأنه كغيره من الأوبئة سينتهي يومًا ما، لكني أتأمل الرسائل الإلهية وأنصت إلى صوت الأرض. الآن في الصباح الباكر يمكنك أن تسمع بوضوح صوت العصافير، وغناء الطيور، يمكنك أن تنظر إلى السماء وتسمع الصوت الحقيقي للحياة، حيث الحياة ناصعة صافيه وكأنها خُلقت من جديد وقد منحنا الله فرصة جديدة لأننا ما زلنا نحيا ونتنفس، لنعرف أنها ليست نهاية العالم، بل ليس هناك ما يسمى بنهاية العالم، هناك دائمًا عوالم أخرى تنتظر من يؤمن بالحياة ومن يستطيع أن يحلم.
* شاعرة من مصر