25 فبراير 2022
يوم مُنع طارق من ركوب الطائرة
هكذا إذن. في الثالث من شهر مايو/ أيار الجاري، مُنع الشاب الفلسطيني، طارق أبو طه، المولود في لبنان والمتحدّر من أب فلسطيني مولود في لبنان ومن جدّة لبنانية، من الصعود إلى الطائرة اللبنانية التي "تُجلي" اللبنانيين من الإمارات إلى لبنان.
تبدو الحكاية كما لو كانت عصية على التصديق. إذ كيف يُمنع الشابُ من صعود سلم الطائرة بعد أن أنجز الإجراءات كلها: أختام الأمن الإماراتي والتزود ببطاقة الصعود من شركة الطيران؟ ولكن سرعان ما تبيّن أن الحكاية ليست واحدةً من الأخبار الكاذبة التي تُسمّم الفضاء العربي بشكل خاص. وثمة ما يقطع كل شك: تعميم المديرية العامة للأمن العام اللبناني، الصادر في الأول من مايو/ أيار 2020 رقم 5932/ م، وينص بالحرف "بعدم السماح بالعودة إلى لبنان على متن طائرات الإجلاء للأشخاص من التابعية الفلسطينية اللاجئة في لبنان (أي إن كان وثيقة سفر فلسطينية أو سلطة) والخدم".
.. لا حاجة للتذكير بالرسم الكاريكاتيري الذي قرَنَ، قبل أسابيع، الفلسطينيَ بفيروس كورونا، بما أن كورونا يجمع الحكايتين في سياقٍ واحد؛ ولكن هذه الحكاية التي تحيط بها شبهة العنصرية (وفي حكاية طارق حكاية إذلاله كذلك) تذكّر بحكاياتٍ أخرى كثيرة تفوقها صَغاراً وخسّة، سيُكتفى، لضيق الحيّز، بواحدة منها: في صيف عام 1995 قرّر العقيد معمر القذافي إنهاء إقامة الفلسطينيين جميعهم في جماهيريته العظمى. وباشرت سلطات الأمن الليبية، معززةً بمليشيات اللجان الشعبية الثورية، إجراءات التنفيذ السريع لقرار "الأخ العقيد". جُمع الآلاف من لاجئي قطاع غزة في مخيمٍ أقيم في هضبة الفيوم على الحدود الصحراوية القاحلة بين مصر وليبيا؛ في حين توجه آخرون إلى بلاد اللجوء التي يحملون وثائقها، لبنان وسورية على الخصوص.
ليس الغرض هنا قرار "الأخ العقيد"، بل إحالته المباشرة وتذكيره ببؤس اللاجئ الفلسطيني
المزمن في لبنان. فما إن أخذت طلائع المطرودين من ليبيا تظهر في المخافر الحدودية، حتى سارعت السلطات اللبنانية إلى اتخاذ جملة من التدابير الأمنية المشددة على نقاط الحدود البرية والبحرية والجوية لمنع فلسطينيي لبنان من الدخول إلى لبنان، حتى لو كانت وثائق السفر التي يحملونها سارية المفعول، وصادرة عن السلطات اللبنانية نفسها. ونظراً إلى الطابع المستعجل لتلك الإجراءات، جرى اتخاذها قبل اجتماع مجلس الوزراء، وبعد تشاور بين رئيس الجمهورية، إلياس الهراوي، ووزيري الخارجية فارس بويز والداخلية ميشال المر، وموافقة رئيس الوزراء رفيق الحريري الذي كان متغيباً في باريس.
أعلن وزير الداخلية اعتماد تدبير غير مسبوق، بيانه أن على كل فلسطيني موجود خارج لبنان "أن يطلب تأشيرة دخول مسبقة على وثيقة السفر اللبنانية التي يحملها. يأتي الطلب إلى لبنان وفي ضوء درس الطلب يتقرّر". وأضاف الوزير "طلبنا أيضاً من وزارة الخارجية التعميم على السفارات، وقد عمّمت بالفعل، عدم إصدار وثائق سفر إلا بعد تحويل هذه الوثائق إلى الأمن العام الذي يقرّر منحها أو عدم منحها. وكذلك الأمر بالنسبة للتأشيرة" (صحيفة الحياة 10/09/1995). وبتاريخ 22/9/1995، صادق مجلس الوزراء على القرار الإداري 478 الصادر عن وزارة الداخلية بهذا الخصوص، والذي يمنع بموجبه أيَّ فلسطيني يحمل الوثيقة اللبنانية من مغادرة الأراضي اللبنانية أو الدخول إليها إلا بعد الحصول على تأشيرةٍ مسبقةٍ، لا تزيد صلاحيتها عن ستة أشهر، ورسمها المالي مائة ألف ليرة لبنانية.
لغط كثير وكلام أجوف مرتفع النبرة ملأ فضاء لبنان في تلك الأيام الخوالي. قيل مثلاً إن التمييز بحق اللاجئ الفلسطيني هو لمصلحته، كي تبقى قضيته حية، ولضمان حقه في العودة إلى وطنه، ولمقاومة التوطين، لأن فلسطين هي وطن الفلسطيني وليس لبنان، وغير ذلك من الكلام الذي يكاد يشي بغرضه البيّن: الدفع نحو الهجرة من لبنان وإخلاؤه من لاجئيه الفلسطينيين.
بعضهم "زُلَّ لسانه، فباح بعنصريته من غير تلعثم، ففي معرض حديثه بشأن الدواعي التي تدفع السلطات اللبنانية إلى منع دخول الفلسطينيين إلى لبنان، وإلى التضييق عليهم، قال الوزير اللبناني للسياحة، نقولا فتّوش، إن لبنان لا يمكن له أن يقبل "نفايات بشرية" (الحياة 12/9/1995) على أراضيه. ولا أخال دلالات "زلّة اللسان" هذه تخفى على أحد.
.. ربما لم يصل إلى علم طارق أبو طه خبر "زلّة لسان" الوزير فتوش، ولا كل اللغط المشين
الذي قيل وقتذاك، لكنه يعلم، على الأرجح، سبب التمييز الذي مورس بحقه ومنعه من الصعود إلى الطائرة، ولماذا وُضع في سياقٍ قال فيه "أنا كرامتي انهانت و بكيت حرقة"؛ وهو يعرف بالتأكيد أن جائحة كورونا ليست هي سبب كلّ هذا العسف المُهين.
لم يذهب إلى الإمارات للتمتع بأبراج دبي، بل بحثاً عن عمل يتعذّر عليه، بما هو لاجئ فلسطيني في لبنان، أن يجده في مسقط رأسه ورأس والده. في لبنان، يُحظر عليه ممارسة مهنته مهندسا؛ ذلك أن الثابت في لبنان الرّسمي بخصوص الفلسطيني اللاجئ هي سياسة إنتاج بؤسه، ودفعه إلى التيقن من عدم جدوى الإقامة في لبنان، وبوجوب مغادرته. وقد نجحت هذه السياسة في "تطفيش" معظم الفلسطينيين إلى قارات العالم وأصقاعه.
حكاية طارق هي حكاية البؤس الفلسطيني في لبنان، وهي حكاية العنصرية الرسمية (أؤكد: الرّسمية) إزاء اللاجئ الفلسطيني، ولاحقاً السوري في لبنان، وحكاية كلّ الكلام الأجوف الذي يريد أو يحسَبُ أنه يُبرّر لهذا البؤس استمرارَه في التاريخ؛ وهي، في الوقت نفسه، حكاية البؤس اللبناني الذي ما زال يتهرّب من رؤية بؤسه، ويواصلُ إلقاءه على الآخرين. غير أن البؤس الفلسطيني في لبنان هو، في أُسّه، سياسي، أي فوق حقوقي. إنه حالة سياسية مستثناة من الحقوق أو في الأصح تستوجب حقوقها المخصوصة، ويعني ذلك عملياً غياب الحقوق. هكذا توضع المعايير الإنسانية والمواثيق والمعاهدات والبروتوكولات الدولية التي صادق لبنان عليها، وهي بالتعريف حقوقية وإجرائية، توضع بين قوسين، حين يتصل الأمر باللاجئين الفلسطينيين، ويُدفع بها إلى الخلف في سلم الأوليات. يفصل بين القرار الإداري 478 وتعميم الأمن العام 5932/ م ربع قرن، لكنهما غير قانونيين، من جهة، وينسجمان مع الهدف الثابت: التطفيش، من جهة ثانية.
.. نحن نعرف أن الدولة القومية، كل دولة قومية، هي في أُسّها دولة تمييز أو بالأصح دولة استبعاد. ولكنها في الحالة اللبنانية دولة تمييز عنصري من غير طلاء، فأولية المواطنين وتمييزهم لا تعني في الدولة الحديثة حرمان غير المواطنين من المقيمين على أراضيها من أيٍّ من حقوقهم المدنية، فاللبناني المقيم في فرنسا، مثلاً، يُعامل وفق معايير تضمن له مقداراً من المساواة في الحقوق المدنية، من حيث التنقل والتملك والعمل والطبابة، .. إلخ، في حين أن الفلسطيني في لبنان محرومٌ من العمل والسكن اللائق والطبابة، وفي أوقات جائحة القذافي أو جائحة كورونا، هو موضوع للتمييز الرسمي العنصري، وللإهانة في حالة الفلسطيني طارق.
قد تجدُ من يبرر للسلطات اللبنانية فعلها المُشين هذا؛ ولكن الشوفينيات لا تحمي أوطانا، ولم تُفضِ إلا إلى خرابها في الوقت الذي تزعم و/أو تظن حمايتها.
.. لا حاجة للتذكير بالرسم الكاريكاتيري الذي قرَنَ، قبل أسابيع، الفلسطينيَ بفيروس كورونا، بما أن كورونا يجمع الحكايتين في سياقٍ واحد؛ ولكن هذه الحكاية التي تحيط بها شبهة العنصرية (وفي حكاية طارق حكاية إذلاله كذلك) تذكّر بحكاياتٍ أخرى كثيرة تفوقها صَغاراً وخسّة، سيُكتفى، لضيق الحيّز، بواحدة منها: في صيف عام 1995 قرّر العقيد معمر القذافي إنهاء إقامة الفلسطينيين جميعهم في جماهيريته العظمى. وباشرت سلطات الأمن الليبية، معززةً بمليشيات اللجان الشعبية الثورية، إجراءات التنفيذ السريع لقرار "الأخ العقيد". جُمع الآلاف من لاجئي قطاع غزة في مخيمٍ أقيم في هضبة الفيوم على الحدود الصحراوية القاحلة بين مصر وليبيا؛ في حين توجه آخرون إلى بلاد اللجوء التي يحملون وثائقها، لبنان وسورية على الخصوص.
ليس الغرض هنا قرار "الأخ العقيد"، بل إحالته المباشرة وتذكيره ببؤس اللاجئ الفلسطيني
أعلن وزير الداخلية اعتماد تدبير غير مسبوق، بيانه أن على كل فلسطيني موجود خارج لبنان "أن يطلب تأشيرة دخول مسبقة على وثيقة السفر اللبنانية التي يحملها. يأتي الطلب إلى لبنان وفي ضوء درس الطلب يتقرّر". وأضاف الوزير "طلبنا أيضاً من وزارة الخارجية التعميم على السفارات، وقد عمّمت بالفعل، عدم إصدار وثائق سفر إلا بعد تحويل هذه الوثائق إلى الأمن العام الذي يقرّر منحها أو عدم منحها. وكذلك الأمر بالنسبة للتأشيرة" (صحيفة الحياة 10/09/1995). وبتاريخ 22/9/1995، صادق مجلس الوزراء على القرار الإداري 478 الصادر عن وزارة الداخلية بهذا الخصوص، والذي يمنع بموجبه أيَّ فلسطيني يحمل الوثيقة اللبنانية من مغادرة الأراضي اللبنانية أو الدخول إليها إلا بعد الحصول على تأشيرةٍ مسبقةٍ، لا تزيد صلاحيتها عن ستة أشهر، ورسمها المالي مائة ألف ليرة لبنانية.
لغط كثير وكلام أجوف مرتفع النبرة ملأ فضاء لبنان في تلك الأيام الخوالي. قيل مثلاً إن التمييز بحق اللاجئ الفلسطيني هو لمصلحته، كي تبقى قضيته حية، ولضمان حقه في العودة إلى وطنه، ولمقاومة التوطين، لأن فلسطين هي وطن الفلسطيني وليس لبنان، وغير ذلك من الكلام الذي يكاد يشي بغرضه البيّن: الدفع نحو الهجرة من لبنان وإخلاؤه من لاجئيه الفلسطينيين.
بعضهم "زُلَّ لسانه، فباح بعنصريته من غير تلعثم، ففي معرض حديثه بشأن الدواعي التي تدفع السلطات اللبنانية إلى منع دخول الفلسطينيين إلى لبنان، وإلى التضييق عليهم، قال الوزير اللبناني للسياحة، نقولا فتّوش، إن لبنان لا يمكن له أن يقبل "نفايات بشرية" (الحياة 12/9/1995) على أراضيه. ولا أخال دلالات "زلّة اللسان" هذه تخفى على أحد.
.. ربما لم يصل إلى علم طارق أبو طه خبر "زلّة لسان" الوزير فتوش، ولا كل اللغط المشين
لم يذهب إلى الإمارات للتمتع بأبراج دبي، بل بحثاً عن عمل يتعذّر عليه، بما هو لاجئ فلسطيني في لبنان، أن يجده في مسقط رأسه ورأس والده. في لبنان، يُحظر عليه ممارسة مهنته مهندسا؛ ذلك أن الثابت في لبنان الرّسمي بخصوص الفلسطيني اللاجئ هي سياسة إنتاج بؤسه، ودفعه إلى التيقن من عدم جدوى الإقامة في لبنان، وبوجوب مغادرته. وقد نجحت هذه السياسة في "تطفيش" معظم الفلسطينيين إلى قارات العالم وأصقاعه.
حكاية طارق هي حكاية البؤس الفلسطيني في لبنان، وهي حكاية العنصرية الرسمية (أؤكد: الرّسمية) إزاء اللاجئ الفلسطيني، ولاحقاً السوري في لبنان، وحكاية كلّ الكلام الأجوف الذي يريد أو يحسَبُ أنه يُبرّر لهذا البؤس استمرارَه في التاريخ؛ وهي، في الوقت نفسه، حكاية البؤس اللبناني الذي ما زال يتهرّب من رؤية بؤسه، ويواصلُ إلقاءه على الآخرين. غير أن البؤس الفلسطيني في لبنان هو، في أُسّه، سياسي، أي فوق حقوقي. إنه حالة سياسية مستثناة من الحقوق أو في الأصح تستوجب حقوقها المخصوصة، ويعني ذلك عملياً غياب الحقوق. هكذا توضع المعايير الإنسانية والمواثيق والمعاهدات والبروتوكولات الدولية التي صادق لبنان عليها، وهي بالتعريف حقوقية وإجرائية، توضع بين قوسين، حين يتصل الأمر باللاجئين الفلسطينيين، ويُدفع بها إلى الخلف في سلم الأوليات. يفصل بين القرار الإداري 478 وتعميم الأمن العام 5932/ م ربع قرن، لكنهما غير قانونيين، من جهة، وينسجمان مع الهدف الثابت: التطفيش، من جهة ثانية.
.. نحن نعرف أن الدولة القومية، كل دولة قومية، هي في أُسّها دولة تمييز أو بالأصح دولة استبعاد. ولكنها في الحالة اللبنانية دولة تمييز عنصري من غير طلاء، فأولية المواطنين وتمييزهم لا تعني في الدولة الحديثة حرمان غير المواطنين من المقيمين على أراضيها من أيٍّ من حقوقهم المدنية، فاللبناني المقيم في فرنسا، مثلاً، يُعامل وفق معايير تضمن له مقداراً من المساواة في الحقوق المدنية، من حيث التنقل والتملك والعمل والطبابة، .. إلخ، في حين أن الفلسطيني في لبنان محرومٌ من العمل والسكن اللائق والطبابة، وفي أوقات جائحة القذافي أو جائحة كورونا، هو موضوع للتمييز الرسمي العنصري، وللإهانة في حالة الفلسطيني طارق.
قد تجدُ من يبرر للسلطات اللبنانية فعلها المُشين هذا؛ ولكن الشوفينيات لا تحمي أوطانا، ولم تُفضِ إلا إلى خرابها في الوقت الذي تزعم و/أو تظن حمايتها.