في تلك الليلة اتخذت المؤسسة العسكرية قرارها بوقف الانتخابات التشريعية في البلاد، ودفعت الرئيس الشاذلي بن جديد إلى تقديم استقالته لرئيس المجلس الدستوري. لم يكن أمام بن جديد أي خيار آخر، لكن الجيش الذي قرر الامساك بزمام الأمور، كان أمام فراغ دستوري، بعد قرار الرئيس حلّ المجلس النيابي وتنظيم انتخابات تشريعية مسبقة.
وكانت الجزائر قد شهدت عملية مسلّحة صادمة، قبل شهرين من القرار العسكري، عندما هاجم مسلحون في 26 نوفمبر/تشرين الثاني 1991، ثكنة عسكرية في منطقة قمار بولاية وادي سوف، جنوبي الجزائر، وسقط ضحيتها أكثر من 18 جندياً.
أذنت العملية بانتقال مجموعات مسلّحة من مرحلة الاعداد إلى مرحلة النشاط المسلّح، علماً بأن الجزائر شهدت مواجهات دامية في يونيو/حزيران 1991، بين قوات الأمن ومناضلي "الجبهة الاسلامية للانقاذ"، التي دعت إلى اعتصام مفتوح في الساحات العامة. استولدت التوترات مناخاً سياسياً ومجتمعياً مشحوناً، ترافق مع تصاعد العنف السياسي، وتخويف التيار العلماني من الانزلاق إلى الصدام، اضافة إلى بداية الانشقاق داخل قيادة "الجبهة الاسلامية للانقاذ"، بعد خروج عدد من القيادات كالهاشمي سحنوني ويحيى بوكليخة وبشير فقير وأحمد مراني، الذين انتقدوا السياسات الصدامية التي انتهجها عباسي مدني وعلي بلحاج، الثنائي الأقوى في الجبهة.
بالنسبة للجيش والتيار الديمقراطي الذي كان يدعم تدخله، فإن "الظروف باتت مهيئة للتدخل ووقف المسار الانتخابي ومنع "الجبهة الإسلامية" من السيطرة على البرلمان والحكم، ومنع انهيار الدولة والنظام الجمهوري".
وتمّ اتخاذ قرار التدخّل، لأن "جماعة الجزأرة (الداعين إلى الفكر الاسلامي الجزائري فقط) وجماعة الهجرة والتكفير، التي تتبنّى المواقف الصدامية، وتدعو إلى الغاء النظام الجمهوري واقامة الدولة الاسلامية، سيطرت على هياكل الحزب الاسلامي". وهي الشعارات التي زادت من مخاوف الداخل والجوار من وصول الحزب الاسلامي إلى السلطة.
بالنسبة لوزير الدفاع، قائد أركان الجيش خالد نزار، فإن "الخيار الوحيد الذي كان متاحاً أمام الجيش، هو التدخل لوقف الانزلاق الخطير إلى العنف، وانقاذ البلاد". واعترف نزار في مذكراته، أنه "مهما كانت الخسائر المتوقعة، فإن قرار وقف المسار الانتخابي كان أكثر من ضروري".
ويقرّ عضو المجلس الأعلى للدولة، علي هارون، بأن "قرار وقف المسار الانتخابي كان الخيار الوحيد المتاح أمام الجيش". ولفت إلى أن "استقالة بن جديد أوجدت حالة من الفراغ المؤسساتي والدستوري، دفعتنا إلى البحث عن خيار الاستنجاد بالرئيس محمد بوضياف، أحد أكبر قادة ثورة التحرير، الذي كان حتى عام 1992 يعيش في المنفى في المغرب، بسبب خلافاته مع قادة البلاد بعد الاستقلال، وتسلّم مقاليد الحكم في الجزائر كرئيس للدولة، قبل اغتياله في 26 يونيو/حزيران 1992".
واللافت أن اغتيال بوضياف، على يد أحد حراسه، المحسوب على الاسلاميين، حسب التحقيقات والرواية الرسمية، لم يكن سوى اعلان لانزلاق البلاد إلى دوامة العنف، التي تحوّلت بعدها إلى أزمة دامية، خلّفت 120 ألف قتيل، حسب الأرقام الرسمية التي أعلنها بوتفليقة، و200 ألف قتيل، حسب ما أوردته المنظمات الحقوقية الدولية.
كما سُجّل أكثر من 7400 مفقود، وتكبّدت البلاد خسائر بقيمة 50 مليار دولار، وتصدّعت البنية الصناعية والاقتصادية، بعد تخريب أربعة آلاف معمل ومصنع، وخسر أكثر من نصف مليون جزائري مناصبهم، واضطر الآلاف من سكان القرى إلى مغادرة منازلهم خوفاً من هجمات المجموعات المسلحة. وأدّت الأزمة إلى تراكم الديون على الجزائر، التي بلغت 40 مليار دولار، ناهيك عن الآثار النفسية والاجتماعية الوخيمة التي تركتها على جيل جزائري بكامله.
لم تخسر الجزائر عقداً من الزمن وآلاف الضحايا، فضلاً عن الخسائر المادية، لكنها خسرت بحسب الزعيم التاريخي لحزب "جبهة القوى الاشتراكية"، أقدم أحزاب المعارضة في الجزائر، حسن آيت أحمد، تجربة ديمقراطية، كان يُنظر إليها بداية التسعينيات على أنها تجربة أولى في الوطن العربي.
وبرأي زعيم جماعة "الاخوان المسلمين" في الجزائر، الشيخ محفوظ نحناح، فإن "التربّص واغتيال العملية الديمقراطية كان مخططاً من أكثر من طرف، لدفع البلاد إلى العنف واجهاض التجربة الديمقراطية الفتية، واغتيال الحلم الديمقراطي، الذي بدأ بانتفاضة أكتوبر/تشرين الأول 1988".