منذ 16 عاماً، تبدّلت أحوال الدنيا. صدام بين أطراف وخصوم، كلّ واحد منهم مُشبعٌ بكمّ هائل من الثقل التاريخي، ثقافياً وإيديولوجياً وفكرياً ودينياً. في 11 سبتمبر/ أيلول 2001، سقط برجا "المركز الدولي للتجارة" في نيويورك، وهوجم مبنى "بنتاغون" في مدينة "أرلينغتون" (فرجينيا). الاعتداء الإرهابيّ متمثّلٌ بـ 4 طائرات، فشلت واحدة منها في بلوغ هدفها. حدث هذا صباح ثلاثاء مشؤوم، قبل أن يُشبَّه، لاحقاً، بالاعتداء الياباني على "بيرل هاربر"، الذي أدخل "أميركا" إلى العالم.
لم تبتعد السينما عن "الحدث الأيلوليّ" هذا. قيل، سريعاً، ببراعة الفن السابع وحرفيته وقدرته على رؤية الأمور قبل حدوثها. انخرط سينمائيون عديدون في الحدث نفسه، وإنْ باختلافٍ كبيرٍ بينهم، معقودٌ على أمرين اثنين: الأول متمثّل في حسّ وطنيّ، حاد للغاية، يُمجِّد أميركا والأمة الأميركية والشعب الأميركي، ويدافع عن قيم الحريات والأخلاق والعدالة والحقوق (!) في مواجهة "وحوشٍ" ينقضّون على هذا كلّه انتقاماً من تقدّم علميّ وثقافي ومعرفيّ، يعجز الوحوش عن بلوغه في ديارهم. والثاني تفكيكيّ، يُتقن تحطيم الأساطير والمحرّمات والمقدّسات، ويكشف فداحة الخطر الأميركي ـ الداخلي قبل الخارجي ـ على أميركا، في الاقتصاد والاجتماع والسياسة والأمن، ولا يتردّد الملتزمون به عن فضح الخواء والتخبّط والانشقاقات الكثيرة في البناء الأميركي، المتنوّع الجوانب والمستويات.
أفلام وتحقيقات وأعمال كثيرة تناولت جريمة الاعتداء الإرهابيّ، وتداعياتها وأبعادها وخلفياتها ووقائعها، في مقابل أصواتٍ مُندِّدة بمجرمين قادمين من "شرق المتوسّط وجنوبه"، مقيمين في اضطرابات جمّة، وانغلاق كثيف، وحُطامٍ نابعٍ من وطأة الأزمنة وخطايا الجغرافيا. العالم كلّه مُقبلٌ على هذا أيضاً، ساعياً إلى فهم الواقع وكشف المبطّن، وعاملاً على إزالة أقنعةٍ كثيرة عن وجوه وأفكارٍ وحكاياتٍ. فـ "الحدث" دوليّ بامتياز، أصاب تلك الجغرافيا الأميركية الحاضنة شعوباً وثقافات وحضاراتٍ، وأدخل العالم كلّه، هذه المرة، إلى قلب أميركا وروحها.
ذلك أن "11 سبتمبر/ أيلول" لم يكن حادث سير عابر في قارة بعيدة، لأنه جريمة قتل فتحت أبواب الجحيم على المعتدى عليهم، كما على الحيّز البشري والإنساني والتاريخي والديني والاجتماعي والأمني والثقافي لجغرافيا المعتدين. وهو صنع ثقافة جديدة، وأفضى إلى اجتهاداتٍ معنيّة بأسلوب العيش والعلاقات والعمل، إلى جانب الأساليب الأخرى في الحكم والأنظمة والثروات والعقائد.
اقــرأ أيضاً
في الجانب السينمائيّ، هناك ملاحظة تتمثّل في أن الأفلام الأميركية (من دون تناسي أهمية نتاج ثقافي وفني متنوّع، يتشابه بحسّ انتقادي تفكيكي سجالي كبير) تبقى أكثر الإنتاجات السينمائية الدولية انتقاداً لأساليب الحياة الأميركية، في كافة الأمور. هذا غير محصور، فقط، في نتاجٍ معنيّ بجريمة "الثلاثاء الأسود"، بقدر ما ينفتح على تاريخ الولايات المتحدّة الأميركية وحاضرها معاً.
في المقاربة السجالية الحادة للجريمة تلك، يبرز الفيلم القصير الذي حقّقه الأميركي شون بن، ضمن مشروع جماعيّ بعنوان "9/ 11"، أُنتج عام 2002: 11 مخرجاً من 11 بلداً، يُنجز كل واحد منهم فيلماً قصيراً تكون مدّته 11 دقيقة و9 ثوان ولقطة واحدة. شون بن، الأميركي المتمرّد والمشاغب والسجاليّ، لم ينتظر وقتاً طويلاً كي يقول رأياً انتقادياً حادّاً في الكارثة التي أنزلها الاقتصادُ الأميركي بحقّ الأميركيين، والتي انكشف حجمها التدميريّ مع سقوط برجي "المركز الدولي للتجارة"، عبر قصة أرمل مقيم في غرفة صغيرة، يمنع البرجان نفسيهما دخول النور والهواء إليها. ومع سقوطهما، ستنمو الوردة الذابلة على الشرفة، وستستعيد حياتها، وسيدخل النور، وستبدأ مرحلة أكثر حيوية وجمالية في تلك الغرفة.
ملاحظة أخرى تتمثّل في 3 نماذج سينمائية، لمخرجين هم أكثر السينمائيين الأميركيين تمرداً وشغباً وإثارة لسجالاتٍ حادة: بالإضافة إلى بن، هناك المخرج الوثائقي مايكل مور، والسينمائي أوليفر ستون. ففي مقابل القسوة والجمالية البديعة في فيلم بن، ازداد مور شعبوية في خطابه التحريضي ضد الرئيس جورج بوش الابن، في "فهرنهايت 9/ 11" (2004)، هذا الرئيس سيُصبح محورا روائيّا طويلا لستون، بعنوان "دبليو" (2008)، يُشكِّل النقيض التام لعمله الروائي السابق "المركز الدولي للتجارة" (2006)، الذي يُعتبر بمثابة نشيد تكريمي وطني، مملّ وبليد وباهت، لإطفائيي نيويورك.
لذا، يُطرح سؤال عن الفرق بين حيوية شون بن وجرأته وتجاوزه عوائق الوطنيات الفارغة، كي يُحدِّد نواة المأزق الأميركي، الأخلاقي قبل الاقتصادي؛ والانفعال الضيّق لأوليفر ستون، الذاهب به إلى شريط سيبقى علامة سوداء في سجله، سينمائياً قبل أي شيء آخر، رغم هجومه الانتقادي البصري الجميل على بوش الابن، لاحقاً.
ومع أن لمايكل مور فضلاً كبيراً في تفكيك بنى أميركية عديدة، في مسائل السلاح والرأسمالية والطبابة والضمان الصحي ـ الاجتماعي؛ ومع أن "فهرنهايت 9/ 11" ينتمي إلى تلك الأعمال السجالية، إلا أن أسلوبه الشعبوي، المعتمد على توليف سريع وحضور شخصي له في مواجهة أميركيين يعتبرهم أعداء الأمة الأميركية، لن يُسعفه في تحويل أعماله إلى نتاج سينمائي متكامل، مع أن شريطه هذا حاصلٌ على "السعفة الذهبية" في الدورة الـ 57 (12 ـ 23 مايو/ أيار 2004) لمهرجان "كانّ"، وهي جائزة "سياسية" بامتياز.
اقــرأ أيضاً
أفلام وتحقيقات وأعمال كثيرة تناولت جريمة الاعتداء الإرهابيّ، وتداعياتها وأبعادها وخلفياتها ووقائعها، في مقابل أصواتٍ مُندِّدة بمجرمين قادمين من "شرق المتوسّط وجنوبه"، مقيمين في اضطرابات جمّة، وانغلاق كثيف، وحُطامٍ نابعٍ من وطأة الأزمنة وخطايا الجغرافيا. العالم كلّه مُقبلٌ على هذا أيضاً، ساعياً إلى فهم الواقع وكشف المبطّن، وعاملاً على إزالة أقنعةٍ كثيرة عن وجوه وأفكارٍ وحكاياتٍ. فـ "الحدث" دوليّ بامتياز، أصاب تلك الجغرافيا الأميركية الحاضنة شعوباً وثقافات وحضاراتٍ، وأدخل العالم كلّه، هذه المرة، إلى قلب أميركا وروحها.
ذلك أن "11 سبتمبر/ أيلول" لم يكن حادث سير عابر في قارة بعيدة، لأنه جريمة قتل فتحت أبواب الجحيم على المعتدى عليهم، كما على الحيّز البشري والإنساني والتاريخي والديني والاجتماعي والأمني والثقافي لجغرافيا المعتدين. وهو صنع ثقافة جديدة، وأفضى إلى اجتهاداتٍ معنيّة بأسلوب العيش والعلاقات والعمل، إلى جانب الأساليب الأخرى في الحكم والأنظمة والثروات والعقائد.
في الجانب السينمائيّ، هناك ملاحظة تتمثّل في أن الأفلام الأميركية (من دون تناسي أهمية نتاج ثقافي وفني متنوّع، يتشابه بحسّ انتقادي تفكيكي سجالي كبير) تبقى أكثر الإنتاجات السينمائية الدولية انتقاداً لأساليب الحياة الأميركية، في كافة الأمور. هذا غير محصور، فقط، في نتاجٍ معنيّ بجريمة "الثلاثاء الأسود"، بقدر ما ينفتح على تاريخ الولايات المتحدّة الأميركية وحاضرها معاً.
في المقاربة السجالية الحادة للجريمة تلك، يبرز الفيلم القصير الذي حقّقه الأميركي شون بن، ضمن مشروع جماعيّ بعنوان "9/ 11"، أُنتج عام 2002: 11 مخرجاً من 11 بلداً، يُنجز كل واحد منهم فيلماً قصيراً تكون مدّته 11 دقيقة و9 ثوان ولقطة واحدة. شون بن، الأميركي المتمرّد والمشاغب والسجاليّ، لم ينتظر وقتاً طويلاً كي يقول رأياً انتقادياً حادّاً في الكارثة التي أنزلها الاقتصادُ الأميركي بحقّ الأميركيين، والتي انكشف حجمها التدميريّ مع سقوط برجي "المركز الدولي للتجارة"، عبر قصة أرمل مقيم في غرفة صغيرة، يمنع البرجان نفسيهما دخول النور والهواء إليها. ومع سقوطهما، ستنمو الوردة الذابلة على الشرفة، وستستعيد حياتها، وسيدخل النور، وستبدأ مرحلة أكثر حيوية وجمالية في تلك الغرفة.
ملاحظة أخرى تتمثّل في 3 نماذج سينمائية، لمخرجين هم أكثر السينمائيين الأميركيين تمرداً وشغباً وإثارة لسجالاتٍ حادة: بالإضافة إلى بن، هناك المخرج الوثائقي مايكل مور، والسينمائي أوليفر ستون. ففي مقابل القسوة والجمالية البديعة في فيلم بن، ازداد مور شعبوية في خطابه التحريضي ضد الرئيس جورج بوش الابن، في "فهرنهايت 9/ 11" (2004)، هذا الرئيس سيُصبح محورا روائيّا طويلا لستون، بعنوان "دبليو" (2008)، يُشكِّل النقيض التام لعمله الروائي السابق "المركز الدولي للتجارة" (2006)، الذي يُعتبر بمثابة نشيد تكريمي وطني، مملّ وبليد وباهت، لإطفائيي نيويورك.
لذا، يُطرح سؤال عن الفرق بين حيوية شون بن وجرأته وتجاوزه عوائق الوطنيات الفارغة، كي يُحدِّد نواة المأزق الأميركي، الأخلاقي قبل الاقتصادي؛ والانفعال الضيّق لأوليفر ستون، الذاهب به إلى شريط سيبقى علامة سوداء في سجله، سينمائياً قبل أي شيء آخر، رغم هجومه الانتقادي البصري الجميل على بوش الابن، لاحقاً.
ومع أن لمايكل مور فضلاً كبيراً في تفكيك بنى أميركية عديدة، في مسائل السلاح والرأسمالية والطبابة والضمان الصحي ـ الاجتماعي؛ ومع أن "فهرنهايت 9/ 11" ينتمي إلى تلك الأعمال السجالية، إلا أن أسلوبه الشعبوي، المعتمد على توليف سريع وحضور شخصي له في مواجهة أميركيين يعتبرهم أعداء الأمة الأميركية، لن يُسعفه في تحويل أعماله إلى نتاج سينمائي متكامل، مع أن شريطه هذا حاصلٌ على "السعفة الذهبية" في الدورة الـ 57 (12 ـ 23 مايو/ أيار 2004) لمهرجان "كانّ"، وهي جائزة "سياسية" بامتياز.