بعد 21 عاماً على توقيع اتفاق أوسلو، لا يختلف أحد من القيادة الفلسطينية وعلى رأسها مهندس الاتفاقية الرئيس محمود عباس، في أن "أوسلو" انهار، والوحيدون الملتزمون فيها هم الفلسطينيون فقط. لذلك تخرج اليوم القيادة التي فاوضت وصمّمت ووقّعت على "أوسلو"، بمبادرة سياسية جديدة، قائمة على إنهاء الاحتلال الإسرائيلي بسقف زمني وإقامة دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة عام 1967، لكنها لم تُعلن حتى الآن "وفاة أوسلو" رسمياً، أو رفض الاستمرار فيها.
ولم يعد غريباً مجاهرة القيادة الفلسطينية بفشل "أوسلو"، فالكل بات يرجمها ويتبرّأ منها، حتى الذي فتح القنوات السريّة للحوار من الفلسطينيين، وقاد الاتصالات الثنائية مع الإسرائيليين والأميركيين، في وقت مبكر قبل توقيع الاتفاقية بسنين طويلة. فقد أثبتت القيادة الفلسطينية أنها بارعة في فتح قنوات سريّة على هامش أي وفد رسمي مفاوض، وتجلّى الأمر مع المفاوض حيدر عبد الشافي، الذي كان يصرّ على "ألّا مفاوضات في ظل الاستيطان" في مباحثات مؤتمر مدريد 1991، ولا تزال هذه إحدى أبرز صفات القيادة الفلسطينية حتى الآن.
ففي أحد اجتماعاته قال عباس "إن السلطة باتت توفّر للاحتلال خدمة خمس نجوم، وتعفيه من جميع التزاماته". وفي أكثر من خطاب، أكد أنه يترأس سلطة صورية من دون سلطة فعلية على الأرض، لكن الرئيس الذي يُطلق عليه الفلسطينيون والإسرائيليون معاً لقب "مهندس أوسلو"، لم يجرؤ يوماً على الإعلان عن أنه في حلّ من الاتفاق الذي كبّل الشعب الفلسطيني أمنياً واقتصادياً، وكبّده خسائر سياسية فادحة.
ولعلّ أبرز النقاط التي يُمكن ملاحظتها، تتمحور في غياب أو تغييب عدد كبير من القيادات التي أنجزت "أوسلو" عن المشهد السياسي، مثل أحمد قريع وحكم بلعاوي، بينما تسلّم البعض الآخر مناصب شرفية لا أهمية لها، فيما بقي الرئيس أبو مازن يمسك بزمام الأمور على كل المستويات كلها.
لم يكن "أوسلو" الذي شقّ الشارع الفلسطيني وما زال، عبارة عن اتفاق واحد بل عملية متكاملة تشمل اتفاقيات مختلفة، بدأت بالتنازل عن فلسطين المحتلة عام 1948 لصالح الكيان الإسرائيلي، واستمرت عبر حكم ذاتي في قطاع غزة وأريحا، مروراً باتفاقية منفصلة في الخليل، فتّتت المدينة وشرّعت الاستيطان فيها، وصولاً إلى اتفاقيات الأمن والاقتصاد.
ولم ينتهِ الجدل حول أوسلو منذ اليوم الأول، و"الاتفاقية جاءت ضد رغبة الأكثرية في الشارع الفلسطيني"، كما يقول غسان الخطيب في إحدى محاضراته، حين درس الاتفاق بعمق وإسهاب، ويعتبر أن "تفرّد فصيل واحد في منظمة التحرير، وما زال، في القرار الوطني، جعل من الاتفاق أمراً محتوماً وواقعاً يعيشه الفلسطيني في كل تفاصيله".
وترى أوساط من الخبراء أن الأضرار الاستراتيجية التي ألحقها الاتفاق بالقضية الفلسطينية من المستحيل تجاوزها، وفي حين يؤكد الخطيب "أن اتفاقية أوسلو لم تكن ضرورة أو ممراً إجبارياً وكانت أضرارها أكثر من مكاسبها"، يبدو أن هناك إجماعاً غير معلن في القيادة الفلسطينية على أن المرحلة الحالية قد تجاوزت أوسلو، وبات من المستحيل الدفاع عن اتفاقية لم يبقَ منها على الأرض سوى التنسيق الأمني واتفاقية اقتصادية وبطاقات "دعوة خاصة" لشخصيات السلطة الفلسطينية المهمة، تمكنهم من اجتياز الحواجز العسكرية الإسرائيلية والسفر للخارج بيسر ودون مشقة وإهانة مثل باقي المواطنين الفلسطينيين.
حتى القيادات التي انخرطت في "أوسلو" عملياً، أو نظّرت لها وبشّرت أن المسار التفاوضي هو الطريق الوحيد للحصول على دولة فلسطينية مستقلة، باتت تتنافس مع المعارضين في عرض سلبياتها ومدى الدمار التي أوصلت الشعب الفلسطيني إليه، في كل مؤتمر أو ندوة، في محاولات لا تتوقف لـ"ركوب الموجة" أحياناً، أو في تكتيك مضحك مبك يجنّبهم المزيد من الانتقادات الحادة في أحيان آخرى.
وما يثير السخرية أكثر، أن تأتي الانتقادات على لسان قادة الأجهزة الأمنية الفلسطينية، الذين أُوكلت لهم مهمة تطبيق التنسيق الأمني، فقاموا باعتقال قادة المقاومة، وأوكلت إليهم مهمة ملاحقتها واجتثاثها. المهمة التي قاموا بها باقتدار وحرفية عالية، وهم اليوم قد تركوا الأجهزة الأمنية لصالح ضباط أصغر منهم سناً، بحسب رؤية الضابط الأميركي كيت دايتون في السنوات القليلة الماضية.
ولم تتوقف الأمور عند هذا الحدّ، بل إن الصحف الإسرائيلية كانت تشيد بأداء الضباط، وتحديداً القيادي الفتحاوي المطرود محمد دحلان، خصوصاً في مرحلة 1994 ـ 1996، واعتبرت أن ما يقوم به "من اجتثاث للبنى التحتية لحركة حماس في قطاع غزة، من غير الممكن أن تقوم به إسرائيل وحدها".
السيناريو ذاته وُجد في الضفة الغربية، التي شهدت عمليات اعتقال واغتيال لقادة المقاومة، وتحديداً في الأجنحة العسكرية للفصائل ولا سيما "حماس" و"الجهاد الإسلامي" و"الجبهة الشعبية"، بالإضافة إلى من أصرّ على المقاومة المسلحة من حركة "فتح"، التي تسيطر على السلطة الوطنية الفلسطينية.
لم يكن الاحتلال لينجح بتوجيه ضربات موجعة للمقاومة إلا في ظل التنسيق الأمني مع الأجهزة الأمنية الفلسطينية، وعدم ملاحقة العملاء ومعاقبتهم، وهذان أمران نصّ عليهما اتفاق "أوسلو" وملاحقه.
ويقول مدير مركز "أحرار" فؤاد الخفش لـ"العربي الجديد"، إنه "يُحسب للاحتلال الإسرائيلي والسلطة الفلسطينية إنهاء ظاهرة المطاردين في العقد الأخير، لأن وجود مطارد لأي فصيل يؤمن بالمقاومة المسلّحة، يعني وجود قنبلة قابلة للانفجار بأي لحظة، ووجود شخص قادر على فعل أي عمل ضد الاحتلال دون أن يحسب الثمن، وهذا بالضبط ما لا تريده السلطة والاحتلال ونجحنا في تحقيقه بشكل كبير جداً".
وفي هذا السياق ترى أوساط من الخبراء أن "أوسلو" لم يكن اتفاقاً سياسياً أحدث خيبات وخسارات فلسطينية إستراتيجية مدوية على الصعيد السياسي فقط، بل أن الشرخ الذي احدثه الاتفاق في النسيج الاجتماعي، على الصعيد الأمني، وإن بدا صامتاً في المجتمع الفلسطيني إلا أنه لا يمكن معالجته أو القفز عنه، ويحتاج إلى سنوات من الدراسة المعمقة والخطط لتجاوز سلبياتها.
ومن أسوأ إفرازات الجانب الأمني في الاتفاق، كان وجود من يُعرف فلسطينياً بـ"المناديب"، أي الفلسطينيين الذين يتجسسون على أبناء جلدتهم لصالح أجهزة الأمن الفلسطينية، في مقابل رواتب وامتيازات. ومن الجدير ذكره أن موازنة الأجهزة الأمنية لها النصيب الأكبر في الموازنة الفلسطينية على حساب الصحة والتعليم والزراعة، ولا تفصح البيانات المالية للأجهزة الأمنية عن حجم رواتب "المناديب" ومخصصاتهم المالية.
ويرى الكاتب والمحلل السياسي هاني المصري، في تصريحات لـ"العربي الجديد" أن "ما بقي من أوسلو هو الالتزامات الفلسطينية فقط، التي أخذت شكل تنازلات، مثل الاعتراف بإسرائيل، والتنسيق الأمني، والالتزامات السياسية والاقتصادية".
ويضيف "إسرائيل تمتلك الذكاء الكافي لعدم الإعلان رسمياً أن أوسلو انتهى، لأنه مُنتهٍ عملياً من جانبها، لكن الفلسطينيين ملتزمون بها. ففي كل الأحوال ليس من مصلحة إسرائيل الإعلان عن نهاية الاتفاق حتى لا تتحمل أي مسؤولية أمام العالم".
وفي تصريحات سابقة يقول نبيل عمرو "أوسلو لم يعد قائماً، لكن من الذي يتحمّل مسؤولة إعلان الوفاة، من الذي يتحمل إدخال الجثمان إلى الضريح؟ هناك خشية من رد الفعل الدولي". ويضيف، وهو أحد المنظّرين السابقين للاتفاق أن "الفلسطينيين مرغمون على التعايش بحكم إمكاناتهم الضعيفة، والإسرائيليون يختارون منه ما يريدون بحكم أنهم الأقوى".
وربما جاء حديث عضو اللجنة المركزية لحركة "فتح" والمفاوض المستقيل محمد إشتية قبل أيام خلال ندوة في رام الله، "حول ضرورة تحويل السلطة من سلطة خدماتية إلى سلطة مقاومة"، دليلاً على المراجعات السياسية التي تقوم بها السلطة بشكل جدي أخيراً.
تحدث إشتية بحماسة حول ضرورة قيام هذا التحويل، لكنه لم يشرح كيف لسلطة قاومت المقاومة المسلّحة على مدار عقدين دون هوادة، أن تعود اليوم وتطلب من الشعب المقاومة.
وفي سياق الخسائر الميدانية جرّاء "أوسلو"، يؤكد خبراء في الإستيطان والمياه، أنه بات من المستحيل تجاوز الخسائر.
ويشير مدير معهد "أريج" جاد إسحق، في تصريحات لـ"العربي الجديد"، إلى أنه "في عام 1993 كان الفلسطينيون يقولون إن المساحة الكلية للمستوطنات تبلغ 1.3 في المئة من مساحة الضفة الغربية، لكن إسرائيل قدمت مخططات هيكلية لمستوطناتها في الضفة الغربية بما يعادل 9 في المئة، وتم فرض هذه المخططات على الجانب الفلسطيني في المفاوضات".
ويتابع "لا يتعلّق الحديث اليوم بالمساحة الجغرافية بل بالكتل الاستيطانية، إذ باتت المستوطنات تُشكّل 75 في المئة من الأراضي المصنّفة (ج) حسب أوسلو، و45 في المئة من إجمالي أراضي الضفة الغربية".
ويلفت إلى أن "الفلسطينيين قالوا قبل 20 عاماً إن المستوطنات موضوع ثانوي، ولا يأخذ مساحة كبيرة، ويمكن أن نجد لها حلاً، لكن إٍسرائيل اليوم نجحت في أن تجعل من هذا الموضوع الثانوي أحد أهم قضايا الحلّ النهائي".
وهنا لا بد من الإشارة إلى واحد من أبرز تصريحات كبير المفاوضين صائب عريقات، قبل أشهر على قناة تلفزيونية فلسطينية حين اعترف "أخطأنا حين لم نربط بين المفاوضات ووقف الاستيطان منذ البداية".
ما يعتبره عريقات خطأ، بات مأساة يعيشها الفلسطينيون كل يوم، ولا أحد يتحدث عن إمكانية محاسبة طاقم من المفاوضين وصنّاع القرار انفردوا بالقرار الفلسطيني على مدار العقدين الماضيين، دون منازع، لأن الإسرائيليين أدركوا تماماً أنهم طوال الوقت وحتى الآن، يفاوضون أفراداً لا مؤسسات، لذلك كانت النتائج دوماً مخيبة للآمال الفلسطينية.
وما كان خطأ بسبب الإهمال أو التهاون أو عدم الخبرة الكافية في المفاوضات، جعل منه الاحتلال أمراً واقعاً، إذ يشير خبراء الاستيطان إلى "أن البناء الاستيطاني زاد منذ عام 1993 بنسبة 190 في المئة، وتركّزت الزيادات الضخمة على طول الحدود الغربية للضفة الغربية، وهي المناطق الموجودة حالياً خلف الجدار الفاصل، ما يعني أن أي مشروع لدولة فلسطينية على حدود 1967 أصبح مستحيلاً".
وباتت هذه الكتل الاستيطانية عبارة عن جزر استيطانية جاثمة فوق المرتفعات ومصادر المياه الطبيعية، وتعيق أي تواصل طبيعي بين البلدات والقرى الفلسطينية. ويقول اسحق "أحد البنود في أوسلو هي منع أي طرف من القيام بأي تصرّف أحادي الجانب، وطيلة الفترة كانت إسرائيل هي من تقوم بصنع الوقائع على الأرض". وتابع "لم ينصّ أوسلو على وجود لجان للتحكيم أو الاعتراض، بل تُرك الأمر فقط للجانبين الفلسطيني والإسرائيلي".
لا مجال لحصر البنود التي نص عليها "أوسلو" واخترقها الاحتلال الإسرائيلي بالقوة، أو مُنع الفلسطينيون من تحقيقها أيضاً بالقوة، على مدار السنين الـ21 الماضية. وعلى سبيل المثال وحسب أحد البنود، كان يجب أن ينتهي عمل الإدارة المدنية بعد 18 شهراً من انتخاب أول مجلس تشريعي فلسطيني عام 1996، واليوم ما زالت "بيت إيل" مقر الإدارة المدنية الإسرائيلية تنتصب في قلب رام الله، غير بعيدة عن بيت الرئيس عباس، وتسيطر على 62 في المئة من مساحة الضفة الغربية، وفيها يقدم الفلسطينيون تصاريح للسفر أو العلاج في الخارج.
لكن ماذا تملك القيادة الفلسطينية أن تفعل الآن، وقد باتت أضعف داخلياً، وكل مرجعياتها السياسية فقدت شرعيتها وتحتاج إلى انتخابات، وإلى التوحّد خلف الإجماع الوطني؟
في هذا السياق، يقول عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية صالح رأفت، لـ"العربي الجديد"، إن "قيادة منظمة التحرير ستنهي أي التزامات مترتّبة عليها، وفقاً لهذا الاتفاق، وفي مقدمتها التنسيق الأمني، وستبدأ مجابهة سياسية شاملة في كل المنظمات الدولية والمحاكم الدولية ضد إسرائيل، حسب المبادرة السياسية الفلسطينية".
ويضيف "لتفعل اسرائيل ما تريد، لتدمر مؤسسات السلطة كما فعلت عام 2000، نحن لا يمكن أن نتنازل عن المصالح العليا للشعب الفلسطيني".
لكن منذ عام 2000 قطع الاحتلال شوطاً كبيراً لإفهام السلطة الفلسطينية أنها لا تملك ولا تحكم على هذه الأرض، بدءاً بتدمير جميع مقرات السلطة عام 2000، وليس انتهاء بهدم المنازل في الأراضي المصنفة (أ) حسب أوسلو أي التي من المفروض أن تقع تحت سيطرة كاملة للسلطة الفلسطينية، وهدم المنازل فيها وتنفيذ عمليات اعتقال.. وليس انتهاء بإعطاء نواب التشريعي أوامر بالإقامة الجبرية المحددة من مكان لآخر في ذات الأراضي التي من المفروض أنها تقع تحت السيطرة الفلسطينية.