وعلى الرغم من التطور والازدهار الاقتصادي الذي شهدته ألمانيا على مرّ السنوات الماضية، لا تزال تواجه العديد من التحديات الداخلية والخارجية، ومنها الاندماج الذي لا يزال غير عضوي بين الشرق والغرب. كما لم تتمكن بعد من ردم الهوة بين قسميها، كما أنّ الإنتاج في شرق البلاد لا يزال أقل 30 في المائة من غربها، على الرغم من إنفاق أكثر من ترليونيْ يورو (2.232 ترليون دولار) من أجل تعزيز النهوض، عدا عن تردي الأوضاع وزيادة الأزمات التي تعصف بالقارة العجوز.
لكن يمكن القول، إنّ برلين تقوم اليوم بدور "المسيّر" لدول الاتحاد، بعدما تقدّمت على نظرائها الأوروبيين، نتيجة عوامل عدة، أهمهما؛ السياسات الجريئة والناجحة المتبعة من قبل الحكومة وحكمتها في التعاطي مع الملفات الساخنة، التي كانت آخرها أزمة الديون اليونانية وقضية اللاجئين، وإعلانها الاستعداد لاستقبال 800 ألف لاجئ هذا العام، على الرغم من كل الخلافات مع جيرانها حول نظام الحصص في ظل تزايد أعداد المهاجرين.
ومن موقعها كأكبر قوة اقتصادية داخل أوروبا وتحمّلها المسؤوليات على الصعيد الدولي سياسياً واقتصادياً ومالياً، جاءت المبادرة من برلين، عندما تولّت المستشارة أنجيلا ميركل وحكومتها مهمة التوسط في النزاعات الدولية، واتخذت قرار تعطيل اتفاقية "دبلن" من خلال سماحها للاجئين السوريين والعراقيين من الوصول والبقاء في ألمانيا على الرغم من تسجيلهم في دول أخرى من دول الاتحاد الأوروبي.
وبعدما شاركت بشكل فعلي في جدولة ديون اليونان، بصفتها من أكبر الدائنين، وكان لها الدور الأهم في إيجاد حلول لمصلحة الدائنين، لا تزال برلين تتابع عن كثب الوضع الاقتصادي لليونان، فضلاً عن الدور الذي قامت به في تقريب وجهات النظر بين إيران والغرب قبل التوصل إلى الاتفاق في شهر يوليو/تموز الماضي.
وفي خطوة متقدمة منها، تحاول برلين، اليوم، تأدية دور أساسي على خط إصلاح الجسم الرئيسي للأمم المتحدة، عبر جهود ميركل أيضاً، التي طالبت خلال اجتماع قمة الأربعة (ألمانيا، واليابان، والبرازيل، والهند)، على هامش اجتماع الجمعية العامة في نيويورك، بهذا الأمر، وذلك من أجل معالجة القضايا التي تشغل العالم حالياً، ومنها الإرهاب والكوارث الطبيعية وحقوق الإنسان ومواجهة أزمة اللاجئين.
اقرأ أيضاً: ميركل والتفاوض مع الأسد...اللاجئون يسرّعون البحث الأوروبي عن حل
واعتبرت برلين أن الأعضاء الحاليين، لا يمثلون العالم بأسره، لذلك يجب تجديد وتوسيع عدد أعضائه الدائمين، في إشارة منها إلى أحقيتها في شغل مقعد دائم في مجلس الأمن الدولي، على الرغم من علمها مسبقاً بالموقف الرافض للولايات المتحدة وروسيا والصين واستخدامها لحق النقض "الفيتو" حماية لمصالحها، وقناعتها أنّ التركيبة الحالية لم تعد تعكس توازن القوى الجديد في العالم مع التغيرات الجيوسياسية.
وتعتبر ألمانيا وحلفاؤها الأربعة، أن هذا التعديل، إذا تحقق، سينعكس إيجاباً على آسيا وأفريقيا بالدرجة الأولى. كما سيساهم بالاتفاق على القضايا القانونية الدولية وحول التدخل العسكري والعقوبات بعدما تغيّرت هيكلية المنظمة الدولية، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وارتفاع عدد أعضائها من 50 إلى 193 دولة.
على صعيد آخر، وعلى الرغم من الحلف السياسي بين ألمانيا وروسيا، ووجود تباينات في مقاربة بعض الملفات بين برلين وموسكو، تسعى الأولى دائماً لإيجاد صيغة مشتركة حول الملفات المثارة والساخنة بين الطرفين، بدءاً من أزمة أوكرانيا وصولاً إلى إصرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على دعم الرئيس السوري بشار الأسد، بالبقاء على رأس النظام في سورية، ناهيك عن الدعم الذي تقدمه لدول أوروبا الشرقية التي خرجت من فلك روسيا.
ولا تزال ألمانيا توسّع دائرة جهودها السياسية، بإعلان وزير خارجيتها، فرانك شتاينماير، إمكانية بناء الجسور بين الولايات المتحدة وروسيا من أجل الوصول إلى اتفاق يفضي إلى الحفاظ على كيان الدولة السورية والحد من إراقة الدماء. واستكملت الحكومة الألمانية دعمها للموقف الأوروبي بالموافقة على توسيع مهمة جيشها (950 جندياً) ضد مهربي البشر في البحر المتوسط، علماً أن فرقاطة وسفينة إمدادات (320 جندياً) تشاركان أساساً في مهمة الانقاذ.
كل هذا الحراك الألماني وتأثيره الكبير على السياسة الأوروبية، دفع البعض إلى اعتبار "أوروبا ألمانية" من خلال فرض قراراتها على اجتماعات مؤسسات الاتحاد الأوروبي. لكن تبقى القناعة التي تنطلق منها برلين في سياستها، أن الاتحاد والتضامن والوحدة يجب أن تتجلى في جميع التحديات التي تواجه الدول الأوروبية، وهذا ما تسعى إليه ألمانيا، نتيجة حرصها على التعاون والتكاتف حول جميع القضايا.
وتتحدث برلين اليوم، عن أوروبا الموحدة لا المفكّكة، وتشارك دول الاتحاد الكثير من هواجسها، مع تأكيدها على أنّه في القضايا الداهمة، يجب اتخاذ القرار في المكان والزمان المناسبين، وهذا ما ظهر جلياً في تعاملها مع قضية اللاجئين، انطلاقاً من اعطاء الأولوية للواجب الأخلاقي والإنساني على الأمني والاقتصادي، وسعيها إلى التكامل مع باقي الدول الأوروبية.
اقرأ أيضاً: ألمانيا والبرازيل والهند واليابان تريد الانضمام إلى مجلس الأمن