"وودستوك بات أسطورة، وظلّ حاضرًا في الأرواح، لأنّه لم يكن حدثًا موسيقيًا فقط، بل حدثٌ تاريخي أيضًا". بهذه الكلمات، وصف الفرنسي باسكال كوردورِكس ـ في مقالة له منشورة في Chronique (العدد 49، 2009)، بعنوان "وودستوك بعد 40 عامًا" ـ احتفالات "الحبّ والسلام"، المعروفة بـ"3 أيام من موسيقى السلام"، أو بـ"وودستوك للموسيقى ومعارض الفنون"، أو بـ"وودستوك" فقط، المُقامة بين 15 و17 أغسطس/ آب 1969، أي قبل نصف قرن. الحدث تاريخي بقدر ما هو موسيقيّ. فرغم تجاهل الصحف ووسائل الإعلام حينها المعاني المُعلنة في الأيام الـ3 تلك ـ الممتدة يومًا ونصف اليوم، لشدّة الحماسة، وكثرة عدد المشاركين والحاضرين، والنجاح الجماهيري الهائل وغير المتوقّع ـ يكشف "وودستوك" شيئًا كثيرًا من تاريخ الولايات المتحدّة الأميركية، في أحد مفاصله الجوهرية، ومن التفاصيل اليومية في السياسة والاقتصاد والحروب والثقافة والفكر والاجتماع الداخلي والتمدّد الخارجي، ومن انكسارات وإحباطات، وانتصارات أيضًا.
"سطران اثنان" عن المهرجان تنشرهما تلك الصحف ووسائل الإعلام، بينما العالم سينتبه إلى الحدث بفضل الوثائقي "وودستوك" (1970) للأميركي مايكل وادْلِي، الذي شارك مارتن سكورسيزي وتيلما شونمايكر (التي ستعمل لاحقًا مع سكورسيزي في غالبية أفلامه كمونتيرة) في توليفه، والفائز بجائزة "أوسكار" أفضل فيلم وثائقي حينها.
صحيح أن السينما غير منجذبة كثيرًا إلى الحدث بحدّ ذاته، لكن المخرج الأميركي مايك ريتشاردز ـ المُشارك في المهرجان عندما كان مُراهقًا ـ يستعيد نشأة المشروع وصعوباته ونزوات نجومه، في وثائقيّ بعنوان "خلق وودستوك (Creating Woodstock)"، الذي بدأ عرضه التجاري الدولي في 13 أغسطس/ آب 2019. علمًا أنّ للتايواني آنغ لي روائيًا طويلاً، مُنجزا عام 2009، بعنوان Taking Woodstock، عُرض للمرة الأولى دوليًا في المسابقة الرسمية للدورة الـ62 (13 ـ 24 مايو/ أيار 2009) لمهرجان "كانّ" السينمائي، وحقّق إيرادات دولية بقيمة 15 مليونا و763 ألفا و925 دولاراً أميركياً فقط، مقابل 30 مليون دولار أميركي كميزانية إنتاج، بالإضافة إلى 78 ألفا و441 مُشاهدًا في فرنسا.
إيراد أرقامٍ كهذه، يُحقّقها فيلمٌ روائي طويل عن الحدث في الذكرى الـ40 لتنظيمه، دليلٌ على المزاج العام حينها إزاء لحظةٍ متأتية من غليان أميركي ودولي، في ستينيات القرن الـ20. هذا ما يُشير إليه الإذاعيّ البلجيكي مارك إيساي، المُشارك في "وودستوك" بأعوامه الـ16 فقط. ففي حوار مع الصحافي شارل فان ديافور، منشور في الصحيفة اليومية البلجيكية La Libre، بتاريخ 10 أغسطس/ آب 2019، يقول نجم الـ"روك" في بلجيكا إنّ ما من شيء باقٍ من "روح" الحدث قبل 10 أعوام. أما اليوم، فـ"هناك نوع من صحوةٍ لتلك الروح"، يُحدِّدها باهتمام الشبيبة الغربية بأسئلة المناخ، مقارنًا الاهتمام الراهن بمناخٍ سائدٍ عام 1969: "يومها، كان واضحًا أن العالم مُشرفٌ على إغلاق دائرة في مساره، أي على نهايتها، وهي دائرة خاصّة بـ"الستينيات الذهبية"، التي تحضر دائمًا في اللاوعيّ الجمعيّ كلحظةِ سعادةٍ كبيرة للغاية".
رغم هذا، يرى إيساي أنّ ما من شيء كبيرٍ باقٍ، علمًا أن اللحظة الراهنة تشهد، هي أيضًا، "نهاية دائرة." هذا يراه متابعون عديدون، يقولون إنّ العالم واصلٌ إلى نهاية شيء ما، وإنّه غير قادر على الاستمرار هكذا وقتًا طويلاً. لذا، فإنّ الاحتفال بذكرى مرور نصف قرن على "وودستوك" يتحوّل، حاليًا على الأقلّ، إلى لحظة تأمّل براهنٍ عصيب، يُنبّه إلى ضرورة إيجاد حلول لمآزق العالم: "قيم التضامن والمشاركة ومسائل البيئة، المتبلورة والمتطوّرة والموضوعة من قِبَل جيل "وودستوك" موضع العمل الميداني، حاضرةٌ كلّها اليوم، أكثر بكثير مما كانت الحال عليه قبل 10 أعوام، أو 15 عامًا"، بحسب إيساي، الذي يؤكّد أنّ الشباب هم من يتوجّب عليهم التحرّك والعمل، تمامًا كما فعل شباب "وودستوك" قبل 50 عامًا.
اقــرأ أيضاً
لكن، ما هو الحدث نفسه؟ ما هو "مهرجان وودستوك"؟
المهرجان ناشئ من فكرة تجارية بحتة. فالمنتج الموسيقي الأميركي مايكل لانغ، الـ"هيبي" الشاب، يريد أرباحًا إضافية، بعد نجاح "مهرجان الـ"بوب" في ميامي" (100 ألف مُشاهد)، المُقام في 18 مايو/ أيار 1968، بهدف شراء استديو خاص به للتسجيلات الموسيقية (Media Sounds). بفضل المهرجان، تمكّن من إنشاء الاستديو، وإقامته في "وودستوك"، حيث "سيعيش" نجومٌ عديدون، أمثال تيم هاردن، المؤلّف الموسيقيّ (فولك)، و"الفرقة" (فرقة "روك" كندية). يومها، اختيرت "بيتل" (مدينة صغيرة تابعة لولاية نيويورك، وتبتعد عن مدينة نيويورك نحو 150 كيلومتراً) لإقامة المهرجان، بعد اتفاقٍ مع المزارع ماكس ياسغور لاستئجار 75 كيلومترًا مربعًا في جنوب غرب "وودستوك"، لـ3 أيام، ولاستقبال نحو 50 ألف شخص.
كلّ شيء تبدّل في اللحظات الأخيرة: ارتفع عدد الحضور إلى نحو نصف مليون شخص (أشار البعض إلى 400 ألف شخص)، وهذا، من ضمن أسباب أخرى، أدّى إلى تمديد المهلة يومًا ونصف اليوم. هناك فرق موسيقية ومغنون وعازفون منفردون، بلغ عددهم النهائي 32، عزفوا موسيقى الـ"فولك" والـ"روك" والـ"سول" والـ"بلوز". هذا كلّه متأتٍ من ثقافة الـ"هيبي"، المنتشرة بقوّة في ستينيات القرن الـ20.
لكن الستينيات نفسها عرفت، أيضًا، محطّات عديدة في الولايات المتحدّة الأميركية، قال كثيرون إنّ "مهرجان وودستوك" منبثقٌ منها، أو متوافقٌ وإياها، وإنْ ظهر بعضها لاحقًا عليها. ولعلّ أكثر تلك اللحظات مأسوية، متمثّلةٌ بالجريمة المروّعة المتمثّلة بمقتل شارون تايت، زوجة رومان بولانسكي، قبل أيام قليلة على بدء المهرجان (9 أغسطس/ آب 1969) على أيدي تشارلز "تكس" واتسن وباتريسيا كرينوينكل وسوزان أتكنس، أعضاء في "عائلة" تشارلز مانسن، أحد أبرز مجرمي أميركا حينها. جريمة يُظهرها المخرج السينمائي كوانتن تارانتينو، في فيلمه الجديد "حدث ذات يوم في... هوليوود"، الذي تبدأ عروض تجارية دولية عديدة له منتصف أغسطس/ آب 2019، فهو عائدٌ إلى عام 1969 أيضًا، لكشف شيئ من تاريخ أميركا حينها، في جوانب مختلفة منه، انطلاقًا من هوليوود.
أجمع كثيرون على أنّ تلك المرحلة مليئة بأحلام التغيير والتمرّد والرفض، في الاجتماع والثقافة والحياة والعلاقات، داخل الولايات المتحدّة الأميركية وخارجها أيضًا ("ثورة الطلاب الفرنسيين" في مايو/ أيار 1968 إحدى علاماتها، و"ربيع براغ" أيضًا، الممتدّ من 5 يناير/ كانون الثاني إلى 21 أغسطس/ آب 1968). هناك من اعتبر أنّ عام 1969 تحديدًا هو "عام نهايات الأحلام تلك". الصحافي البلجيكي تييري كولغون كتب، في الصحيفة اليومية البلجيكية "لو سوار" (10 أغسطس/ آب 2019)، أنّ "الحلم" ـ المتأتي من تلك المرحلة ـ "عاش نهايته عند غسق هذه العشرية المجنونة".
للتذكير فقط: بعد عامين اثنين على الحدث الموسيقي ـ التاريخي هذا، ألّف الشاعر والمغنّي الأميركي جيم موريسون "النهاية" لفرقة "ذو دورز". لاحقًا، أعلن جون لينون، الموسيقيّ والمؤلّف والعازف والكاتب البريطاني، "نهاية عالم"، بكتابته "الحلم انتهى". لكن، قبل هذا كلّه، هناك حلمٌ تحقّق: في 21 يوليو/تموز 1969، وطأت قدما الأميركي باز آلدرن سطح القمر، بعد لحظات قليلة على "نزول" نِلْ أرمسترونغ، ما يجعلهما "أول" رجلين يحظيان بهذا "المجد". صيف عام 1967، احتُفل بمهرجان موسيقيّ في "مونتيري" في كاليفورنيا، مع نجوم "بوب" عديدين، بينهم جيم هاندريكس وجانيس غوبلن وأوتيس ريدّينغز ورافي شانكار وغيرهم (بعضهم شارك في "وودستوك" أيضًا). لهذا، لن يكون "وودستوك" أول مهرجان في نوعه، لكنّه بالتأكيد الأهمّ.
إلى ذلك، هناك من أشار إلى أنّ المجتمع الأميركي لم يكن يومًا منقسمًا بحدّة وقسوة إلى فئتين، منذ "حرب الاستقلال الأميركية" (1861 ـ 1865)، كما حصل في ستينيات القرن الـ20. استعادة أحداث تلك الحقبة تكشف غليانًا كبيرًا في هذا المجتمع، مع تنامي الحراك السلميّ للأفروأميركيين أو السود الأميركيين، المطالبين بحقوقهم المدنيّة. هناك حرب فيتنام، والنقمة الكبيرة (المتمثّلة بسلسلة تظاهرات كبيرة) على الإدارة الأميركية، المستمرة في خوض تلك الحرب رغم الخسائر التي لا تُحتَمل. هناك اغتيال جون كينيدي (22 نوفمبر/ تشرين الثاني 1963)، ثم مارتن لوثر كينغ (4 إبريل/ نيسان 1968)، وروبرت كينيدي (6 يونيو/ حزيران 1968). "وعود" جون كينيدي تتحوّل إلى ذكرى طيّبة. النشاط السلمي المُطالب بالحقوق المدنية للأفروأميركيين عانى صدمة كبيرة جرّاء اغتيال أبرز زعمائه. الانشقاق في بنية المجتمع الأميركي خطر وقاسٍ: المتسلّطون وكبار السنّ، المستفيدون من الاجتماع الاستهلاكي، مقابل الشباب والليبراليين والمثقفين اليساريين والفنانين والناشطين في مجال حقوق الإنسان وتجمّعات السود والطلاب الجامعيين، الذين لا يجدون أنفسهم أبدًا في هذه الـ"أميركا"، التي بدت حينها أنّها، من ليندون جونسون إلى ريتشارد نيكسون، "تتراجع".
مهرجان "وودستوك"، رغم انبثاقه من فكرة تجارية، تحوّل سريعًا، على نقيض رغبات منظّميه ربما، إلى "حدثٍ عظيم"، مع أنّ أمطارًا صيفية "غزته"، والرطوبة مسيئة إلى تقنيات الصوت، والمنطقة أصغر من أنْ تتحمّل مسؤولية تأمين المأكل والمشرب والإقامة لـ500 ألف شخص. هؤلاء جميعهم سبّبوا زحمة كبيرة، إلى درجة أنّ مغنين وموسيقيين، وفرقًا بكاملها، لم يتمكّنوا من الوصول في المواعيد المحدّدة، فتأخّر صعودهم على خشبة المسرح، وتولّى حاضرون مهمّة الغناء والعزف ريثما يصلون. الموسيقيّ البريطاني ليو لايونز (1943)، أحد مؤسّسي فرقة Ten Years After حينها، يتذكّر تلك الأيام: "كان صعبًا علينا رؤية هؤلاء جميعهم. بالكاد كنًا نرى بضع مئات منهم في الصفوف الأولى. لكننا كنا نشعر بهذه الطاقة والحيوية والحماسة، وهذه كلّها جيّدة".
اقــرأ أيضاً
حكايات "مهرجان وودستوك" غير منتهية. الحدث بحدّ ذاته جزء من وعي فردي وجماعيّ. مشاركون كثيرون فيه لا يزالون أحياء يُرزقون. أفكاره تطرح أسئلة، لم يتمكّن الزمن من إلغائها، رغم عدم تمكّنها من الحصول على إجابات مؤكّدة ونهائية. العنصرية تستعيد حيويتها. الانشقاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية تُمزّق الولايات المتحدّة الأميركية والعالم، تمامًا كما هو حاصلٌ قبل نصف قرن.
فهل ينبثق "وودستوك" جديد، أمّ أنّ الخراب الآنيّ أقوى من حثّ الناس على التحرّك؟
صحيح أن السينما غير منجذبة كثيرًا إلى الحدث بحدّ ذاته، لكن المخرج الأميركي مايك ريتشاردز ـ المُشارك في المهرجان عندما كان مُراهقًا ـ يستعيد نشأة المشروع وصعوباته ونزوات نجومه، في وثائقيّ بعنوان "خلق وودستوك (Creating Woodstock)"، الذي بدأ عرضه التجاري الدولي في 13 أغسطس/ آب 2019. علمًا أنّ للتايواني آنغ لي روائيًا طويلاً، مُنجزا عام 2009، بعنوان Taking Woodstock، عُرض للمرة الأولى دوليًا في المسابقة الرسمية للدورة الـ62 (13 ـ 24 مايو/ أيار 2009) لمهرجان "كانّ" السينمائي، وحقّق إيرادات دولية بقيمة 15 مليونا و763 ألفا و925 دولاراً أميركياً فقط، مقابل 30 مليون دولار أميركي كميزانية إنتاج، بالإضافة إلى 78 ألفا و441 مُشاهدًا في فرنسا.
إيراد أرقامٍ كهذه، يُحقّقها فيلمٌ روائي طويل عن الحدث في الذكرى الـ40 لتنظيمه، دليلٌ على المزاج العام حينها إزاء لحظةٍ متأتية من غليان أميركي ودولي، في ستينيات القرن الـ20. هذا ما يُشير إليه الإذاعيّ البلجيكي مارك إيساي، المُشارك في "وودستوك" بأعوامه الـ16 فقط. ففي حوار مع الصحافي شارل فان ديافور، منشور في الصحيفة اليومية البلجيكية La Libre، بتاريخ 10 أغسطس/ آب 2019، يقول نجم الـ"روك" في بلجيكا إنّ ما من شيء باقٍ من "روح" الحدث قبل 10 أعوام. أما اليوم، فـ"هناك نوع من صحوةٍ لتلك الروح"، يُحدِّدها باهتمام الشبيبة الغربية بأسئلة المناخ، مقارنًا الاهتمام الراهن بمناخٍ سائدٍ عام 1969: "يومها، كان واضحًا أن العالم مُشرفٌ على إغلاق دائرة في مساره، أي على نهايتها، وهي دائرة خاصّة بـ"الستينيات الذهبية"، التي تحضر دائمًا في اللاوعيّ الجمعيّ كلحظةِ سعادةٍ كبيرة للغاية".
رغم هذا، يرى إيساي أنّ ما من شيء كبيرٍ باقٍ، علمًا أن اللحظة الراهنة تشهد، هي أيضًا، "نهاية دائرة." هذا يراه متابعون عديدون، يقولون إنّ العالم واصلٌ إلى نهاية شيء ما، وإنّه غير قادر على الاستمرار هكذا وقتًا طويلاً. لذا، فإنّ الاحتفال بذكرى مرور نصف قرن على "وودستوك" يتحوّل، حاليًا على الأقلّ، إلى لحظة تأمّل براهنٍ عصيب، يُنبّه إلى ضرورة إيجاد حلول لمآزق العالم: "قيم التضامن والمشاركة ومسائل البيئة، المتبلورة والمتطوّرة والموضوعة من قِبَل جيل "وودستوك" موضع العمل الميداني، حاضرةٌ كلّها اليوم، أكثر بكثير مما كانت الحال عليه قبل 10 أعوام، أو 15 عامًا"، بحسب إيساي، الذي يؤكّد أنّ الشباب هم من يتوجّب عليهم التحرّك والعمل، تمامًا كما فعل شباب "وودستوك" قبل 50 عامًا.
لكن، ما هو الحدث نفسه؟ ما هو "مهرجان وودستوك"؟
المهرجان ناشئ من فكرة تجارية بحتة. فالمنتج الموسيقي الأميركي مايكل لانغ، الـ"هيبي" الشاب، يريد أرباحًا إضافية، بعد نجاح "مهرجان الـ"بوب" في ميامي" (100 ألف مُشاهد)، المُقام في 18 مايو/ أيار 1968، بهدف شراء استديو خاص به للتسجيلات الموسيقية (Media Sounds). بفضل المهرجان، تمكّن من إنشاء الاستديو، وإقامته في "وودستوك"، حيث "سيعيش" نجومٌ عديدون، أمثال تيم هاردن، المؤلّف الموسيقيّ (فولك)، و"الفرقة" (فرقة "روك" كندية). يومها، اختيرت "بيتل" (مدينة صغيرة تابعة لولاية نيويورك، وتبتعد عن مدينة نيويورك نحو 150 كيلومتراً) لإقامة المهرجان، بعد اتفاقٍ مع المزارع ماكس ياسغور لاستئجار 75 كيلومترًا مربعًا في جنوب غرب "وودستوك"، لـ3 أيام، ولاستقبال نحو 50 ألف شخص.
كلّ شيء تبدّل في اللحظات الأخيرة: ارتفع عدد الحضور إلى نحو نصف مليون شخص (أشار البعض إلى 400 ألف شخص)، وهذا، من ضمن أسباب أخرى، أدّى إلى تمديد المهلة يومًا ونصف اليوم. هناك فرق موسيقية ومغنون وعازفون منفردون، بلغ عددهم النهائي 32، عزفوا موسيقى الـ"فولك" والـ"روك" والـ"سول" والـ"بلوز". هذا كلّه متأتٍ من ثقافة الـ"هيبي"، المنتشرة بقوّة في ستينيات القرن الـ20.
لكن الستينيات نفسها عرفت، أيضًا، محطّات عديدة في الولايات المتحدّة الأميركية، قال كثيرون إنّ "مهرجان وودستوك" منبثقٌ منها، أو متوافقٌ وإياها، وإنْ ظهر بعضها لاحقًا عليها. ولعلّ أكثر تلك اللحظات مأسوية، متمثّلةٌ بالجريمة المروّعة المتمثّلة بمقتل شارون تايت، زوجة رومان بولانسكي، قبل أيام قليلة على بدء المهرجان (9 أغسطس/ آب 1969) على أيدي تشارلز "تكس" واتسن وباتريسيا كرينوينكل وسوزان أتكنس، أعضاء في "عائلة" تشارلز مانسن، أحد أبرز مجرمي أميركا حينها. جريمة يُظهرها المخرج السينمائي كوانتن تارانتينو، في فيلمه الجديد "حدث ذات يوم في... هوليوود"، الذي تبدأ عروض تجارية دولية عديدة له منتصف أغسطس/ آب 2019، فهو عائدٌ إلى عام 1969 أيضًا، لكشف شيئ من تاريخ أميركا حينها، في جوانب مختلفة منه، انطلاقًا من هوليوود.
أجمع كثيرون على أنّ تلك المرحلة مليئة بأحلام التغيير والتمرّد والرفض، في الاجتماع والثقافة والحياة والعلاقات، داخل الولايات المتحدّة الأميركية وخارجها أيضًا ("ثورة الطلاب الفرنسيين" في مايو/ أيار 1968 إحدى علاماتها، و"ربيع براغ" أيضًا، الممتدّ من 5 يناير/ كانون الثاني إلى 21 أغسطس/ آب 1968). هناك من اعتبر أنّ عام 1969 تحديدًا هو "عام نهايات الأحلام تلك". الصحافي البلجيكي تييري كولغون كتب، في الصحيفة اليومية البلجيكية "لو سوار" (10 أغسطس/ آب 2019)، أنّ "الحلم" ـ المتأتي من تلك المرحلة ـ "عاش نهايته عند غسق هذه العشرية المجنونة".
للتذكير فقط: بعد عامين اثنين على الحدث الموسيقي ـ التاريخي هذا، ألّف الشاعر والمغنّي الأميركي جيم موريسون "النهاية" لفرقة "ذو دورز". لاحقًا، أعلن جون لينون، الموسيقيّ والمؤلّف والعازف والكاتب البريطاني، "نهاية عالم"، بكتابته "الحلم انتهى". لكن، قبل هذا كلّه، هناك حلمٌ تحقّق: في 21 يوليو/تموز 1969، وطأت قدما الأميركي باز آلدرن سطح القمر، بعد لحظات قليلة على "نزول" نِلْ أرمسترونغ، ما يجعلهما "أول" رجلين يحظيان بهذا "المجد". صيف عام 1967، احتُفل بمهرجان موسيقيّ في "مونتيري" في كاليفورنيا، مع نجوم "بوب" عديدين، بينهم جيم هاندريكس وجانيس غوبلن وأوتيس ريدّينغز ورافي شانكار وغيرهم (بعضهم شارك في "وودستوك" أيضًا). لهذا، لن يكون "وودستوك" أول مهرجان في نوعه، لكنّه بالتأكيد الأهمّ.
إلى ذلك، هناك من أشار إلى أنّ المجتمع الأميركي لم يكن يومًا منقسمًا بحدّة وقسوة إلى فئتين، منذ "حرب الاستقلال الأميركية" (1861 ـ 1865)، كما حصل في ستينيات القرن الـ20. استعادة أحداث تلك الحقبة تكشف غليانًا كبيرًا في هذا المجتمع، مع تنامي الحراك السلميّ للأفروأميركيين أو السود الأميركيين، المطالبين بحقوقهم المدنيّة. هناك حرب فيتنام، والنقمة الكبيرة (المتمثّلة بسلسلة تظاهرات كبيرة) على الإدارة الأميركية، المستمرة في خوض تلك الحرب رغم الخسائر التي لا تُحتَمل. هناك اغتيال جون كينيدي (22 نوفمبر/ تشرين الثاني 1963)، ثم مارتن لوثر كينغ (4 إبريل/ نيسان 1968)، وروبرت كينيدي (6 يونيو/ حزيران 1968). "وعود" جون كينيدي تتحوّل إلى ذكرى طيّبة. النشاط السلمي المُطالب بالحقوق المدنية للأفروأميركيين عانى صدمة كبيرة جرّاء اغتيال أبرز زعمائه. الانشقاق في بنية المجتمع الأميركي خطر وقاسٍ: المتسلّطون وكبار السنّ، المستفيدون من الاجتماع الاستهلاكي، مقابل الشباب والليبراليين والمثقفين اليساريين والفنانين والناشطين في مجال حقوق الإنسان وتجمّعات السود والطلاب الجامعيين، الذين لا يجدون أنفسهم أبدًا في هذه الـ"أميركا"، التي بدت حينها أنّها، من ليندون جونسون إلى ريتشارد نيكسون، "تتراجع".
مهرجان "وودستوك"، رغم انبثاقه من فكرة تجارية، تحوّل سريعًا، على نقيض رغبات منظّميه ربما، إلى "حدثٍ عظيم"، مع أنّ أمطارًا صيفية "غزته"، والرطوبة مسيئة إلى تقنيات الصوت، والمنطقة أصغر من أنْ تتحمّل مسؤولية تأمين المأكل والمشرب والإقامة لـ500 ألف شخص. هؤلاء جميعهم سبّبوا زحمة كبيرة، إلى درجة أنّ مغنين وموسيقيين، وفرقًا بكاملها، لم يتمكّنوا من الوصول في المواعيد المحدّدة، فتأخّر صعودهم على خشبة المسرح، وتولّى حاضرون مهمّة الغناء والعزف ريثما يصلون. الموسيقيّ البريطاني ليو لايونز (1943)، أحد مؤسّسي فرقة Ten Years After حينها، يتذكّر تلك الأيام: "كان صعبًا علينا رؤية هؤلاء جميعهم. بالكاد كنًا نرى بضع مئات منهم في الصفوف الأولى. لكننا كنا نشعر بهذه الطاقة والحيوية والحماسة، وهذه كلّها جيّدة".
حكايات "مهرجان وودستوك" غير منتهية. الحدث بحدّ ذاته جزء من وعي فردي وجماعيّ. مشاركون كثيرون فيه لا يزالون أحياء يُرزقون. أفكاره تطرح أسئلة، لم يتمكّن الزمن من إلغائها، رغم عدم تمكّنها من الحصول على إجابات مؤكّدة ونهائية. العنصرية تستعيد حيويتها. الانشقاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية تُمزّق الولايات المتحدّة الأميركية والعالم، تمامًا كما هو حاصلٌ قبل نصف قرن.
فهل ينبثق "وودستوك" جديد، أمّ أنّ الخراب الآنيّ أقوى من حثّ الناس على التحرّك؟