أبو عناد وتشيخوف وفيلمون وهبي
لم يتصل أبو صالح بي خلال الأسبوعين الأخيرين. اتصل البارحة، واعتذر عن التأخير، وسوغه بأنه كان يتابع عملية عصير الزيتون، وأبدى سروره لأن الموسم هذه السنة كان وفيراً، يكفي مؤونة للأسرة، سنة بطولها، وقال إنه أولم لأصدقائه من أكلة الـ"زَنَّانة"، وهي أكلة موسمية، يأتي كل واحد برغيف، ويغطه بالزيت، ويفرط عليه حبات رمان مما تنتجه بساتين بلدة دركوش الجبلية، ويدرج الرغيف ويأكله بتلذذ غريب.
وقال إنه قرأ، في مدونات "العربي الجديد"، ما كتبتُه عن لقائي بأبو عناد، وعرضي فلسفتَه الخاصة بالتمييز بين مديون غبي، يتعرض للضرب والإهانة لأنه لا يجيد التهرب من الدائنين، وآخر فهيم، مثل أبو عناد، يستعمل ذكاءه، وثقافته، وجرأتَه في مواجهة الدائنين، حتى إنه أقدم على توجيه الدعوة لكل دائنيه، إلى مقهى الريحاني، وقابلهم بكل ثقة، وأعلن فيهم أن حصولهم على أموالهم قد بات قاب قوسين أو أدنى..
قال أبو صالح: أعجبتني، بشكل خاص، حكايةُ الرجل الذي جاء يحصّل دينه من الرجل المدعو أبو عبدو، في قرية البلاطة، وبدلاً من تحصيل الدين اضطر لأن يدفع خمسمئة ليرة، بعدما وضعه أبو عبدو في موقف ميلودرامي، واستثار عطفه، وحرصَه على تعليم الأولاد.
- هذا النوع من القصص، يا أبو صالح، ليس جديداً، وأذكر أنني قرأت قصة لأنطون تشيخوف العظيم، عن رجل بخيل، يجلس ليحاسب خادمته على أجورها، ويُغرقها في تفاصيل تبدو منطقية، ولكنها كاذبة، حتى يصل، في النهاية، إلى أن الخادمة هي التي يجب أن تدفع نقوداً لسيدها، بدلاً من أن تقبض! هذه الحادثة دخل فيها خيال تشيخوف، وأما نحن، فعندنا حكاية اخترعتها المخيلةُ الشعبية السورية، تقول إن ولداً طلب من والده خمس ليرات "خرجيّة"، فصفر الأب بفمه، وقال:
- أف ف ف! تريد أربع ليرات؟ ألا ترى أن مبلغ ثلاث ليرات كثير؟ تكفيك ليرتان. خذ، هذه ليرة. والأحلى أن الولد يتلقف القطعة النقدية، وعندما يتمعن فيها يجد أنها ربع ليرة! وقبل أن يعترض الولد، يقول له أبوه: هذه تكفيك يومين، ثلاثة، أربعة...
وهناك قصة واقعية مدهشة، رواها شيخ الملحنين فيلمون وهبي. عندما سئل عن الأجور التي كان يتقاضاها لقاء ألحانه الخالدة. قال إنه لا يهتم للنقود إلا عندما يكون مفلساً، وذات مرة، طلبت منه مطربةٌ شابة لحناً، ولكنها، في ذلك اليوم، لم تكن تمتلك أية نقود، فرضي أن يلحن لها بالدَيْن، لأن أحواله المادية، يومها، كانت جيدة، فلم يبالِ، ولكنه، بعد مرور أشهر، أفلس، فذهب إليها ليطالبها بالدَيْن، فقالت له، عندما وصل:
- جيت بوقتك يا أبو عماد، أمي مريضة بالحمّى، وأريد أن آخذها إلى الطبيب، وما معي أية فلوس.
مد يده إلى جيبه، فعثر فيها على خمس ليرات، أعطاها للشابة، ومضى وهو يصيح موال بغداد.
- حلوة. ولكن أيش علاقة بغداد في الموضوع؟
- في بدايات نبوغ فيلمون وهبي ذهب إلى العراق، وأقام فيها زمناً، وتزوج هناك، وعاد إلى بيروت. وأما الموال، فهو قمة في التهكم والسخرية، يقول:
من جور بغداد جيت الشام لأقضي العمرْ
ورصاص زخ المطر، وسيوف تاخد عمرْ
ورصاص.. ورصاص، زخ المطر ورصاص..
- وكيف انتهت حكاية أبو عناد مع الدائنين؟
- كان أبو عناد، بحسب ما حكى لي، متأثراً بشخصية أبو عبدو ابن قرية البلاطة. فقد قال للدائنين، في ذلك الاجتماع التاريخي، إن القرض المصرفي سيحل المشكلة من جذورها، فالبنك يدفع للمقترض كومة من النقود، دفعة واحدة، وهو، بدوره، يستلم المبلغ، ويدعوكم، فوراً، إلى هذا المكان المحترم، ويضيفكم، على حسابه، كأساً من الشاي الخمير، ويضع في يد كل واحد منكم المبلغ المستحق له، وبعدها يبخ له بخة عطر، ويعتذر له عن التأخير، وكل أرض تشرب ماءها.
وكان من بين الدائنين واحد نزق، اسمه أبو عامر، قام فجأة، وقال لأبو عناد:
- يا أخي، قسما بالله أنت صرعت طيــ.. نا بالحكي، والوعود، وجعلتنا نعيش في الأحلام، ونرى العصافير في منامنا وهي تنتقل من غصن إلى غصن، وتزقزق.. ولكن أيش النتيجة؟ لا شيء، والله لو أنك دفعت لكل واحد منا ربع المبلغ المستحق له عليك، وبدلاً من بخة العطر أعطيته ضرطة، لما زعلنا. أخي، بعد إذن الشباب، أنا سأنقلع من هنا، الله لا يردني، وبالنسبة للدين الذي لي بذمتك، سواء أدفعته كله، أو نصفه، أو ربعه، وفوقه عطر أو ضراط، ما عادت فارقة معي. السلام عليكم.
وهم بالمغادرة، فلحقه أبو عناد، وأمسكه، وقَبَّلَ جبينه، وقال له:
- عليّ الطلاق من أختك أم عناد، لا أتركك تمشي، يا أبو عامر، قبل أن ننهي الاجتماع بشكل رسمي، فأنت أخونا، وحبيب قلبنا، وحاشاك من الضراط، والله لا أسمح لنفسي أن أعطيك قرشاً بدون بخة عطر!!
- طيب. كما تريد. المهم، أنت قل لنا، ماذا تريد الآن؟
- بصراحة يا أبو عامر؟ الحصول على القرض ليس بالأمر السهل، أنا سألت أكثر من شخص، وقالوا لي إنه يحتاج إلى معاملة ومستندات، ومن المحتمل أن يرسل البنك لجنة ثلاثية للكشف على داري التي ستكون هي الضمانة للتسديد، وداري، في الواقع، لا تصلح للسكن الآدمي، أنا وأختكم أم عناد والأولاد نعيش فيها، لأن البديل الوحيد عنها هو أن ننام في الزقاق، أيهما أحسن برأيك أنت، يا أخوي أبو عامر، ننام في هذه الدار الجربانة، أم في الزقاق؟
زفر أبو عامر زفرة تكنس بيدراً وقال: الدار الجربانة أحسن. غيره؟
- عليك نور. يعني، (وخاطب الكل) يا شباب، أنتم سادة العارفين، إذا أنا أردت أن أحصل على قرض من مصرف التسليف الشعبي، سوف يلزمني بعض المصاريف، فهل يعقل أن أترك هذه الوجوه النيرة، وأبحث عن شخص لا أعرفه ولا يعرفني وأكسر نفسي له، وأطلب منه مبلغاً أستعمله في استخراج القرض؟ ادفعوا لي أنتم هذا المبلغ، وأضيفوه إلى ديونكم السابقة، وصلى الله وبارك.
قال أبو صالح: بالفعل صاحبك أبو عناد مديون ذكي. ومع ذلك أنا أتوقع أن يرفضوا طلبه، ويضربوه.
- بالعكس. فدائنو أبو عناد كلهم يعرفون طريقته في المزاح والتنكيت. وبالأخص مدرس اللغة العربية الذي مد يده إلى جيبه، ملأها نقوداً، ودسها في يد أبو عناد.
(للسالفة بقية)