أحمد رجب.. كبير الساخرين الكبار
كنت أعدُّ محاضرة عن "الأدب الساخر"، ذكرتُ فيها أن النقاد يتوقفون في تأريخهم للأدب الساخر عند رواده، وأهمهم، بلا شك، إبراهيم المازني. ثم يقولون: هذا وقد ظهر، في ما بعد، لفيفٌ من الأدباء الساخرين، أمثال فلان وفلان وأحمد رجب..
إنَّ ذكر اسم أحمد رجب على هذا النحو اللامبالي، لدليلٌ على أن النقاد لم ينتبهوا إلى أنه واحد من القمم العالية التي يحتاجُ من يريد أن يطَاوِلَهُ إلى عشرات السنين!
لا أظنني مجازفاً برأيي إذا قلت إن أحمد رجب هو أقرب كتابنا الساخرين في أسلوبه ونكهته إلى الأستاذ الأول: الجاحظ. وليس صعباً إثبات ذلك. فالنقاط المشتركة بينهما هي: الثقافة الموسوعية - سهولة الإبداع - إتقان السرد (أو: المعلمية) - بلوغ الحالة التهكمية مرتبة الهَزْل.
في الهزل، تَنْتُجُ السخرية عن بانوراما من الأقوال والأفعال والتصرفات التي تبدو منسجمة مع ذاتها ومتناغمة، ولكنها، في الواقع، مضحكة، تدل على ارتباك كبير، وتؤدي إلى الضحك الصافي اللذيذ.
لدي مثال من مجموعة أحمد رجب "كلام فارغ" عنوانها "الوزير جاي".
يخبرنا راوي القصة أنه اتصل بالمدير أحمد بيه البشاري جعدار ليشرح له معاناة المواطن صابر أيوب، فقيل له إنه مشغول جداً، لأن الوزير جاي.
انظروا إلى الحالة الهزلية في المقطع التالي: علمتُ أن أحمد بيه البشاري جعدار يقضي أوقاتاً عصبية وقاسية في انتظار هذه الزيارة حتى أصبح لا يردد من الكلام سوى عبارة "الوزير جاي".
فإذا سأله صديق: سرحان بإيه؟ قال: أصل الوزير جاي. وإذا قال أحدهم السلام عليكو، قال الوزير جاااي ورحمة الله وبركاتو، وإذا أمسك السماعة قال الوزير جاي مكان (ألو). وحينما يزوره في المكتب يحكي له عن الاستقامة، وأنه غير خائف من الوزير لأن كل شغله تمام. ثم يسأله: الوزير جاي ولا الوزير جاي؟ (يقصد قهوة ولا شاي)؟
وانظروا المقطع الذي يليه: في مكتب جعدار بيه وجدت قبيلة من السكرتاريا تعدادُها ألف سكرتير. على أنه من الإنصاف أن نقول إن هذه القبيلة ليست من قبيل المظاهر أو الأبهة أو النفخة الكدابة، فالرجل - كما قال لي من قبل - وقتُه من ذهب، وهذه القبيلة توفر له الذهب.
ثم لا بد من عددها الكبير لأنها تعمل بأحدث أساليب العصر وهو "التخصص"! فليس هناك مدير لمكتب واحد وانتهينا، بل هناك مدير للمكتب كله، ثم مدير لمكتب درجه اليمين، ومدير لمكتب درجه الشمال، ومدير لمكتب درجه الأوسط، ومدير لكرسي المكتب، مهمته الوقوف خلف جعدار بيه ليدير به الكرسي شمالاً ويميناً أثناء حديثه مع الزوار.
المعاملات والاستمارات التي ترد إلى هذه المديرية يجب أن يمضي عليها الموظف الزعتراوي. ولكن الزعتراوي مات. وجعدار بيك يعرف ذلك، بل إنه شارك في تغسيله! ولكنه لا يقبل بأن يعتبره ميتاً إلا إذا تسلم ما يثبت ذلك، ورقياً.
وهذا الأمر عَقَّدَ مشكلة السيد عبد الله أبو جبل الذي أصبح يأتي إلى المديرية كل يوم، وأصبح صديقاً للموظفين، وأصبح يوقع على الاستمارات! وأصبح توقيعه معتمداً بأمر من الششماوي بيك! ومن وقتها أصبح عدد الذين يوقعون على المعاملات 1524 بدلاً من 1523.
وتستمر القصة على هذا النحو الهزلي العذب، وكلما انحلت فيها عقدة تنبثق عقدة أخرى مكانها، حتى نرى أحد المراجعين يضرب موظفاً، وحينما يمسك به الشرطي ويحقق معه، يقول له:
- أنا كومبارس جاؤوا بي إلى هنا لأمثل أمام الوزير كيف يضرب المواطن الموظف وليس العكس!