أعادني ألمُ بيروت للكتابة
عدت للكتابة، ولكن بأي حال؟! يعود الواحد منّا إلى النادي الرياضي بعد سنة ربما وأكثر؟ عند دخوله الباب يشعر وكأنه سيبدأ من الصفر مجدداً، يحس أنه في مكان ليس مكانه، حتى وإن كان الرياضيون يتحدثون عن الذاكرة العضلية التي يمكن أن تساعدك في حمل أثقالٍ صعبة كنت تحملها يوماً ما، حتى لو غبت عن التدريب لمدة طويلة، هذا يعني أن عضلاتك تتذكر أنك تستطيع أن تحمل وتحمل. في الكتابة لم أجد ما أسميه اجتهاداً "الذاكرة الكتابية"، عدت هزيلاً لا أملك سوى جملة وقليلاً من الحبر، بعض انقطاع دام أكثر من سنة، كنت قد قررت أن أتوقف، ولكن لماذا عدت لا أعرف، وكيف يعرف الواحد منّا أنه لا يعرف، أيضاً لا أعرف...
من الأشياء التي أدخلتني في حالة جمود عصبي، وأبعدتني عن الرغبة والمتعة والهواية والمهنة التي أحب هي وتيرة الأحداث ورتمها المتشابه الذي كنت أعيشه في سورية، وفي عالمنا، وأقصد في عالمنا الشرق الأوسط فقط، هذا الشرق الملعون كأنه، أو ربما المقهور أو الأصح المطموع فيه، وأردت أن ابتعد كلياً عن التشفي من الدهر بالكتابة، ولكن لا أعلم كيف؟ كيف يذهب الواحد منا إلى مكان دون أن يتفلّت من أصوات الأطفال الباكية في فلسطين، وآهات الأمهات الحارقة، أم كيف وكيف، كل هذا جعلني أقول إن الكتابة قمة التفاهة، وإنّ أهم مقالات كتّاب العالم لا تقف عند جملة "شعراته كيرلي" فليس مجدياً أن تكون فصيحاً في العربية أمام القهر والقتل، فلن تسعفك قواميس اللغات لتصف أحوال الناس في الحروب أو نوائبهم المتكالبة.
في هذه السنة قرأت كتباً عديدة وتصفحت مئات المقالات على مواقع عديدة منها ما هو موّجه ومنها ما هو اعتباطي ومنها ما هو غث أو سمين، اعتقدت أني أصبحت جَلداً ومتجمداً من كثرة القراءة والثقافة والنضج الحياتي الذي نسميّه بالسوري "التعتير"، لقد حاولت طوال سنين أن أتفلّت من الخدمة العسكرية، من بلد لبلد وتشردٍ لآخر، حتى عندما يضيقُ بي الحال، كنت أقول سأذهب للخدمة العسكرية، تعبت من التشرد، أن أتشرد في بلدي خير من بلاد الأغراب، وهكذا ظننت أنّه لن يؤثّر بيّ أي شيء، ربما من كم مصائب الدهر التي حطت علي وأنا ابن العشرين وابن سورية، ولكثرة الأمراض النفسية التي اجترحت روحي من كوني سورياً، وحدك ستعرف أيها القارئ، ماذا يعني أن تكون سورياً شاباً، سوريا شاباً!! هذا أبلغ عنوان للضياع وأدق مصداق للمصير المجهول.
بسنة واحدة في لبنان، اعتقدت أني هربت من سورية وحربها والجحيم الذي أذاقنا الويل فيها لمدة تزيد عن 12 سنة، وما إن بدأتُ التأقلم على بيئة ليس فيها حرب ولا قذائف ولا صورايخ، وبدت بيروت كسماءٍ لي أغدقت بعطاءاتها، وصار بشّار يحلّقُ فيها كعصفور خرج للتو من قفصه، حتى أتت إسرائيل لتكدّر صفو حياة اللبنانيين وأنا معهم، وهكذا عشتُ حرباً جديدة فيها أسلحة جديدة وأصوات جديدة وشعب جديد، والمصيبة أني كنت مراسلاً أنقل الأحداث وأرى أمامي الفظائع والكوارث.
كل هذا دُفعة واحدة وبأقل من شهر أعادني لنقطة ما تحت الصفر، ليقول لي: نعم، تستطيع أن تشعر أيضاً بالمزيد، أنت لم تتجمد بشكل كامل، ما زال هناك متسع لتشعر بالاحتراق، ليس للألم حد، ليس له عتبة، وهو يزيد كلما تقدمت في العمر، فلا يعرفُ الألم العمر، إلى أن ينخر يا سيدي بطفل خُلق للتو، وجنين عُصر في بطن أمه قبل ثوان، لا يترك الألم شيئاً إلّا ويضع علامة عليه، أشعر كأنه كأولئك الذين يكتبون على الجدران أسماء حبيباتهم أو كأولاد الشوارع الذين يكتبون أقبح الشتائم على جدران الأماكن العامة في البلاد، مهما كانت نتيجة الألم إلّا أنه يترك أثراً، وهذا الألم الجديد الذي سبّب لي نكسة نفسية جديدة، ترك أثراً كبيراً على روحي، وجعلني أقول في قرارة نفسي، ربما نصيبي الألم، ربما قدري أن أداوم على الكتابة فعدت...