أغنية تركية... طاسة الحَمَّام من الفضة
تشريق وتغريب (3)
في البداية استغرب صديقي أبو أحمد أن يكون للعَلَّامة جلال الدين السيوطي كتاب عنوانه "اليواقيت الثمينة في صفات السمينة"، ولكنه، بعدما استفتى محرك البحث "غوغل"، اتصل بي، وقال إن للسيوطي، هذا الكاتب الرائع، كتباً أخرى يبدو من عناوينها أنها قمة في الوضوح والصراحة، منها "شقائق الأترنج في رقائق الغنج".. وثمة كتاب يبدأ عنوانه بعبارة (نواضر الأيك في..). والله.
قلت: لعلمك، إن الكتب التي تتحدث عن الغرام، في العصور السابقة، مألوفة، كطوق الحمامة، وألف ليلة وليلة، بالإضافة إلى كتب السيوطي.. ونحن نستطيع أن نأخذ من ذلك عبرة، وهي أن الحرية، في الأزمنة السابقة، كانت أكبر منها في زماننا، وهذا يدل على أننا نحن العرب نتطور، ولكن إلى الخلف (أنرييه).. على حد تعبير أبي العلاء المعري..
- لحظة أخي أبو مرداس. المعري شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء، هل يعقل أن يحكي عن التطور إلى الخلف، على هذا النحو الساخر؟
- الله يصلحك يا أبو أحمد. وكأنك لا تعرف أن المعري من كبار الساخرين في العالم؟
- لا والله، لا أعرف. كنت أظنه مقطباً جاداً مكتئباً. ولهذا أنا لم أقرأ له أي كتاب.
- يا سيدي، المعري، في رأيي المتواضع، يسخر بسبب ذكائه الحاد، وثقافته الموسوعية التي جعلته ينظر إلى من حوله على أنهم لا يفقهون شيئاً، وإذا أنت قرأت قصيدته التي تبدأ بقوله (غير مجدٍ في ملتي واعتقادي)، لوجدت أنه ينظر إلى تراب الأرض على أنه مصنوع من عظام الموتى عبر العصور، ولذلك يجب أن ندوس عليه برفق، احتراماً لأجدادنا، وأن حزناً يحضر في لحظة الموت يساوي الأفراح والليالي الملاح التي نحييها حينما يولد لنا طفل.. وذات مرة أراد أن يؤلف كتاباً يرد فيه على أحد شاتميه، فأطلق على كتابه عنواناً لا يمكن لكبار الساخرين أن يبتكروه.
- ما هو؟
- زجر النابح. وبذلك افترض أن شاتمه كلباً ينبح، وأنه في الكتاب لا يحاوره بل يزجره.
كان وحيداً على سبع بنات، وورث من جدي أراضي وعقارات كثيرة، ولكنه لم يحتفظ إلا بجزء صغير من الثروة، فقد كان متلافاً مبذراً
- يا إلهي. شيء ممتع فعلاً. وأنا الآن أريد أن أعرف كيف تحدث المعري عن الرجوع إلى الخلف ومؤكد أن كلمة (أنرييه) هذه من عندك.
- نعم يا أبو أحمد. جاء في كتاب المعري المدهش "رسالة الغفران" أنه رأى نفسه في الحلم، يوم الحشر، واقفاً أمام الصراط، يريد أن يعبره، وتقدمت منه جارية، تريد مساعدته، فقال لها:
ستِّ، إن أعياكِ أمري
فاحمليني زَقَفُونَـهْ
قالت: وكيف تكون الزقفونه؟
قال: أن يَطرح الإنسان يديه على كتفي الآخر، ويمسك بيديه، ويحمله، وبطنه إلى ظهره. أما سمعتِ قول الجحجلول، من أهل كفر طاب:
صلحتْ حالتي إلى الخلف حتى صرت أمشي إلى الورى زَقَفُونه؟
فقالت الجارية: لم أسمع بالجحجلول ولا بـ كفر طاب قبل الآن.
(ملاحظة 1: لم يكن يوجد شاعر باسم الجحجلول. وهذا يدل على أن حكاية بيت الشعر كلها من اختراع المعري).
(ملاحظة 2: كفر طاب حصن يقع إلى الغرب من بلدة خان شيخون التي هجر ابن حافظ الأسد أهلها وتركها خاوية على عروشها).
أبو أحمد: طيب يا أستاذ. أنا الآن، وبصراحة، ما عدت أعرف الشرق من الغرب.
- لكي نعرف الشرق من الغرب، فإننا نحتاج إلى بوصلة، ولعلمك أننا، أبناء هذه البلاد، أضعنا شيئين أساسيين من حياتنا، أولهما البوصلة، وثانيهما الطاسة.
- ضياع البوصلة فهمناها. فماذا عن الطاسة؟
- الحديث عن الطاسة ذو شجون، وتفريعات. وبالمناسبة؛ هناك أغنية تركية راقصة تقول: حمام طاسة غُمُشْتان (Hamam Tasi Gümüşten). وترجمتها: طاسة الحمام مصنوعة من الفضة. في عصرنا الحاضر، يا سيدي الكريم، كل إنسان يستحم في داره، وإذا ذهبتَ إلى المسبح أو نادي الرياضة، وأردت أن تستحم، فلن تعثر على أي نوع من الطاسات، يكفيك أن تفتح الدوش لتنهمر المياه عليك (كجلمود صخر حطه السيل من عَلِ). ولكن الحمام كان له في السابق طنة ورنة.. الرجال يذهبون إلى حمام السوق، ويأخذون معهم الثياب النظيفة، والصابون الممتاز، وفي الحمام تُقَدَّم لهم بقية اللوازم، مثل الطاسة التي تلزم لسكب الماء على الرأس والجسم، وهي إما من الألمنيوم، أو من النحاس (ويقال لها: حويزا)، والمئزر الذي يلفونه حول القسم السفلي من الجسم لأجل ستر العورة، والمناشف، وبعض الحمامات تقدم للزبون، بعد الاستحمام، نفساً من التنباك (نرجيلة) مع كأس شاي أكرك عجم. وأما النساء فكان ذهابهن إلى الحمام ذا طنة ورنة، ولا سيما إذا كان بمناسبة خطوبة، أو عرس، ووقتها يمكن أن تتباهى بعض النساء على بعضهن الآخر فيقلن: طاسة حمام عروستنا مصنوعة من الفضة. ولو كان الأمر يحصل الآن، بعدما تشكلت ثروات مالية كبرى في العالم، لوجدت طاسات تصنع من الذهب أو الماس. هل تعرف طاسة الرعبة؟
- لا والله.
- يبدو أنها كانت معروفة في معرتمصرين أكثر من إدلب. يا سيدي، أنا، محسوبك، كنت أعيش أيام طفولتي في دار عربية كبيرة، يلعب فيها الخَيَّال. وهذا القول مجازي وواقعي في آن واحد.
- لم أفهم.
- عبارة (يلعب فيها الخَيَّال) تعني أنها واسعة إلى درجة أنك تستطيع أن تركب حصاناً وتجري عليه في أرض الديار. وبالإضافة إلى أرض الديار كانت هناك أرض ملحقة بالدار من جهة الغرب، أطلقوا عليها اسم البرج. وسبب التسمية أن الحائط الغربي كان مؤلفاً من بيوت صغيرة، كل بيت فيه زوج من الحمام، وتحته لبدة وبيوض، وكان مجموع الحَمَامات يطرن أحياناً، حينما يكون الطقس صحواً في الهواء على هيئة (شلعة)، وبعد حين يعدن، وكل زوج يرجع إلى بيوضه أو فراخه.
- أفهم من هذا الكلام أن أسرتك كانت غنية؟
- نعم. جدي، الحاج خطيب، كان ثرياً جداً، ووالدي، عبد العزيز، كان وحيداً على سبع بنات، وورث من جدي أراضي وعقارات كثيرة، ولكنه لم يحتفظ إلا بجزء صغير من الثروة، فقد كان متلافاً مبذراً، أضف إلى أنه مات عن زوجتين اثنتين، وتسعة أبناء، وسبع بنات، وهكذا فرطت مسبحة الغنى، وقعدنا، كما يقول المثل: على الأرض يا حكم.
المهم، كنا نرتعب من كثرة المفاجآت في هذه الدار الواسعة، ووالدتي تسقينا ماء بـ طاسة الرعبة.
(وللحديث بقية)