أم الفتى الأهبل نبيه الصابرة
لو كان بالإمكان التعامل مع العواطف الإنسانية بالطريقة الحسابية لقلنا إن السيدة أم أحمد قد قسمت الحب الموجود في روحها إلى قسمين: الأول وزعته على أولادها التسعة الذين يزن عقل كل واحد منهم جبلاً، والثاني خصصته كله لـ "نبيه" الأهبل المجنون الشرس الذي لا تطاق صحبتُه، ولا تسر رؤيته، ولا يؤمَنُ المرورُ بجواره، فكانت لا تخاطبه، حينما يناديها ليطلب منها خدمة إلا بعبارة:
- نعم يا قلبي؟
- إئمور يا روحي..
- الله لا يحرمني من نبيه وطلباته.
وكانت أم أحمد، في لحظة خروج "نبيه" من المدرسة، قد تجاوزت الخمسين من عمرها، وجسدها الذي كان نحيفاً قبل الزواج سمن، وترهل، وامتلأ بالهضاب والتلال، وأصبحت تمشي في البيت بصعوبة كسيارة محملة بأكثر ما هو مخصص لحمولتها.. ومع ذلك، فقد كان الجميع يندهشون من الخفة والرشاقة اللتين كانت تتمتع بهما حينما يطلب منها نبيه طلباً، كأن يقول لها:
- أمي، جوعان بدي آكل.
فتهب واقفة، وتندفع باتجاه المطبخ وهي تقول:
- أنا موجودة هون وأنت تجوع؟ يخسا الجوع! الله تعالى، بجاه سيد المرسلين لا يجعل أحداً يقبرني ويلحدني ويكفنني بيديه غيرك يا نبيه!
وما هي إلا دقائق حتى تكون أم أحمد قد نقلت نصف محتويات النملية إلى أمامه، وهو بدوره لا ينتظر حتى تكتمل السفرة، بل يباشر المضغ والبلع مع قدوم أول صحن، ولدى ورود آخر صحن يكون قد التهمَ الأخضر الموجود في السفرة واليابس!
وفي ذات يوم، كان نبيه جالساً، ممدداً ساقيه اللتين تنتهيان بقدمين مثل شختورتين، مسنداً يديه اللتين تشبهان مخباطَي الصَبَّاغ على الأرض، مرخياً براطيمه الأكبر من براطيم الجمل، وقال لأمه، لاثغاً كعادته بالحروف الصافرة:
- أمي، أنا مشتهي على أكلة سنبوسك وشيش برك.
فقالت أم أحمد:
- تكرم عينك يا قلبي، يا نظري.. قوم حبيبي، أنا لا أقدر على حمل السلم الخشبي، أحضره من غرفة الجلوس وأسنده على طرف السقيفة لكي أصعد وأحضر كمية من الطحين وأعمل لك سنبوسك.
نفذ "نبيه" ما طلبته منه أمه بسهولة ويسر، فقد اعتاد أن يحمل السلم الخشبي الضخم ذي الدرجات الثخينة بيد واحدة وكأنه حمالة مفاتيح!
صعدت أم أحمد إلى السقيفة، وفتحت الكيس الخاص بالطحين، وغرفت منه غرفتين وضعتهما في إناء نحاسي، وفتلت جسدها إلى الخلف تريد أن تنزل، فلم تجد السلم! كان نبيه قد حمله بسهولة كحمالة المفاتيح، وأسنده على الجدار المقابل.
ضحكت أم أحمد من أعماقها وقالت لنبيه:
- يوه، تقبرني ان شاء لله يا نبيه، كم أنت مرح ودمك خفيف، عن جد يا إبني، مزاحك حلو!
قال نبيه، بوجه ينقط سماً:
- هذا ما هو مزح، اقعدي على السقيفة وصيحي مواويل أحسن لك!
دهشت أم نبيه وهي ترى الجِد ينضح من وجه نبيه ولهجته، وقالت له بلهجة متوسلة:
- لا يا ابني، عيب. أنا أمك، امرأة كبيرة، ومريضة، هل يعقل أن تتركني محبوسة هنا على السقيفة؟ أنا بودي أطبخ لك سنبوسك وشيش برك، ألم تقل إنك مشته السنبوسك والشيش برك؟
قال: لا أريد أن آكل أي شي، أنا رايح لألعب مع رفاقي على البيدر!
وفتح الباب وخرج.
بعد العصر، عاد أبو أحمد من البستان إلى البيت، وبعد أن ربط البغلين على مربطيهما، دخل إلى غرفة الجلوس، فسمع أنيناً خافتاً يأتي من الأعلى، عرف للتو أنه أنين أم الأولاد، فبسمل وحوقل وقال:
- معقولة تكون أم أحمد فوق؟
وفي تلك اللحظة دخل نبيه، فسأله أبو أحمد عن أمه فقال له:
- هذه امرأتك على السقيفة، اطلع وأنزلها لتحت. اربطها بالحبل فأنا لن أحمل السلم.
في لحظة واحدة فهم أبو أحمد ما جرى. نظر جانباً فوقعت عينه على "بنسة" من تلك التي يستخدمها ابنه الكبير أحمد في إصلاح مفاتيح الكهرباء، فتحها وأمسك بها أذن نبيه، وسحبه بها إلى الجدار المقابل، حيث السلم مسند عليه! وقال له:
- احمل السلم وضعه على حافة السقيفة.
فنفذ "نبيه" الأمر، وأثناء ذلك ما انفك يقول:
- اسمع مني، اتركها على السقيفة، خليها تصيح مواويل!
----------------
سيرة مسلسلة ــ يتبع