أونروا: بين الدور السياسي والالتزام الدولي بحقوق اللاجئين الفلسطينيين
أصدر الكنيست الإسرائيلي يوم الاثنين 28 أكتوبر/تشرين الأول 2024 تشريعاً يحظر عمل وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) في إسرائيل بحجة أن هذه الوكالة الأممية "مخترقة من الفصائل الفلسطينية المسلحة"، وأن وجودها يمثل أزمة أمام حل المشكلة مع الفلسطينيين عامة.
تعتبر أونروا من أكثر المؤسسات الأممية التي تثير الجدل السياسي، وذلك لما تمثله من دور حيوي يتجاوز حدود تقديم الخدمات الإغاثية. هذه الوكالة، التي صُممت في البداية حلّاً مؤقتاً لتقديم الدعم الإغاثي والتنموي للاجئين الفلسطينيين، باتت تمثل اليوم عنصراً جوهرياً في مسار الصراع السياسي المتعلق بالقضية الفلسطينية وحق العودة.
ولكن هل هذه الذريعة التي يتم استخدامها هي السبب الحقيقي وراء هذا التشريع؟ لماذا إذاً دأبت كل الحكومات الاسرائيلية منذ عشرات السنين على توجيه سهامها ضد أونروا وعملياتها رغم أنها منظمة دولية تقوم بتقديم الدعم الإغاثي فقط وأن إسرائيل نفسها لا تساهم في تمويل أية أنشطة لها؟ وما هو الخطر الذي تمثله هذه المنظمة على إسرائيل وماذا تأمل إسرائيل من قرارها هذا؟
الحقيقة أن كل ما قدمته إسرائيل من ذرائع ما هي إلا حجج واهية يسهل إثبات عدم صحتها وعدم شرعيتها. وأن السبب الحقيقي وراء العداء الإسرائيلي لهذه المنظمة هو دورها السياسي بالقضية الفلسطينية عموماً وبقضية اللاجئين الفلسطينيين خصوصاً.
ولفهم الدور السياسي المذكور يجب هنا أن نسأل سؤالاً مهماً: لماذا اختصت الامم المتحدة الفلسطينيين دون غيرهم من بقية اللاجئين في العالم بوكالة أممية مستقلة ولم تخضعهم مثل بقية اللاجئين في العالم لاختصاص المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. أخذاً بعين الاعتبار أنه وفقاً لإحصاءات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في نهاية عام 2023 فإن النسبة الأكبر من اللاجئين على مستوى العالم تأتي من سورية وأفغانستان (حيث يبلغ عدد اللاجئين من كل من البلدين 6.4 ملايين لاجئ)، وتليهما فنزويلا (6.1 ملايين لاجئ) وأوكرانيا (6.0 ملايين لاجئ) ثم اللاجئون الفلسطينيون (5.9 ملايين لاجئ).
جواباً عن هذا السؤال لا بد من العودة إلى بعض المعلومات التاريخية المهمة التي تلعب دوراً محورياً في أزمة اللاجئين الفلسطينيين والخلفية التاريخية حول إنشاء ودور أونروا.
الدور التاريخي لأونروا ومسؤولية المجتمع الدولي
في 29 تشرين الثاني / نوفمبر 1949 أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار رقم 181 الذي نص بشكل أساسي على إنهاء الانتداب البريطاني لفلسطين وعلى تقسيم فلسطين إلى دولتين، عربية ويهودية. وفور صدور هذا القرار باشرت العصابات الإسرائيلية بأعمالها الإرهابية لإخلاء البلدات والقرى الفلسطينية من سكانها الفلسطينيين تنفيذاً لخطة التقسيم. واستمرت هذه الأعمال حتى إعلان قيام الدولة اليهودية في 15 أيار 1948 التي أسفرت عن قرابة 850 ألف لاجئ فلسطيني من المناطق الواقعة تحت السيطرة اليهودية ولم يبق سوى 170 ألف عربي في هذه المناطق.
وحيث إن قيام هذه الدولة اليهودية وما رافقها من تهجير للفلسطينيين كان نتيجة مباشرة لقرار التقسيم 181 سالف الذكر الصادر عن الأمم المتحدة فقد نشأ انطباع قوي لدى الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بمسؤوليتهم عن مشكلة اللاجئين، إذ إنهم هم من أصدروا القرار ومن ثم هم أيضاً مسؤولون عن معالجة كل نتائجه السلبية.
تعتبر أونروا من أكثر المؤسسات الأممية التي تثير الجدل السياسي، وذلك لما تمثله من دور حيوي يتجاوز حدود تقديم الخدمات الإغاثية
وبعد عدة محاولات لاحتواء الوضع، تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 19 نوفمبر 1948 القرار 212/3 الذي أنشأت بموجبه وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين UNRPR وهي ((منظمة أنشئت لإعداد وتطبيق برامج الإغاثة والمساعدات الضرورية من وكالات الأمم المتحدة المختصة والمنظمات غير الحكومية كاللجنة الدولية للصليب الأحمر))، حيث كان دورها تحقيق التنسيق الإداري والمسؤوليات الميدانية مع الهيئات التطوعية المتوافرة. وقد تم تأسيس هذه المنظمة بناء على طلب وسيط الأمم المتحدة بشأن فلسطين، في تقريره المرحلي المؤرخ 18 سبتمبر/أيلول 1948 (الجزء الثالث)، على أنه "يجب اتخاذ إجراءات لتحديد التدابير اللازمة للإغاثة وتوفير سبل تنفيذها"، مشيراً إلى أن "الاختيار هو بين إنقاذ أرواح آلاف عديدة من الناس الآن أو السماح لهم بالموت" وقد كان التفويض الممنوح من الامم المتحدة لهذه الوكالة هو تقديم الإغاثة لخمسمائة ألف لاجئ على مدى فترة تسعة أشهر من 1 ديسمبر 1948 إلى 31 أغسطس 1949.
وبناء على التقرير المؤقت لبعثة الأمم المتحدة في عام 1949 لإجراء المسح الاقتصادي للشرق الأوسط وتقرير الأمين العام عن مساعدة اللاجئين الفلسطينيين، ظهرت الحاجة الماسة والملحة إلى استمرار الإغاثة لما بعد 31 آب / أغسطس 1949. إذ أوصت البعثة بإنشاء منظومة جديدة كلياً تركز على مشكلات اللاجئين أنفسهم. وبعد ذلك اتخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً بتشكيل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين ((أونروا)) في القرار 302 في 8 كانون الأول / ديسمبر 1949. مهمتها الوقاية من ظروف البؤس والمجاعة بين اللاجئين الفلسطينيين وتوفير الشروط اللازمة للسلام والاستقرار لهم.
ويعتبر إنشاء أونروا في حد ذاته اعترافاً صريحاً من المجتمع الدولي بمسؤوليته المباشرة عن أزمة اللاجئين الفلسطينيين. هذا الاعتراف لم يكن مجرد خطوة شكلية، بل هو ترجمة واضحة للوعي بمشاركة الأمم المتحدة في قرار تقسيم فلسطين عام 1947 (القرار 181) وما تبعه من آثار مباشرة على الشعب الفلسطيني والذي لم يكن بداية الأزمة فحسب، بل كان بداية سلسلة من الأحداث التي أسهمت في تشريد الشعب الفلسطيني وتحويله إلى لاجئين. ثم إن إنشاء أونروا لم يكن مجرد تدبير خدماتي، بل هو تجسيد لالتزام أخلاقي وقانوني لتحمل مسؤولية حل مشكلة اللاجئين بشكل شامل يضمن حقوقهم ويحفظ هويتهم.
وقد أدركت الأمم المتحدة في فترة مبكرة من الصراع أن مجرد الاعتراف بالأزمة ليس كافياً، بل ينبغي اتخاذ خطوات ملموسة لمعالجة آثارها. ولذلك، تم إنشاء وكالة أونروا لتقديم الدعم الإغاثي للاجئين الفلسطينيين بهدف تحسين ظروفهم المعيشية والتخفيف من معاناتهم، مع الاعتراف الضمني بوجود مسؤولية دولية تتجاوز مسألة الإغاثة.
الدور السياسي لأونروا في السياق الفلسطيني
منذ إنشائها، اكتسبت أونروا دوراً سياسياً يعكس التزام المجتمع الدولي بالمسؤولية تجاه قضية اللاجئين الفلسطينيين. هذا الدور يعزز من فكرة أن مشكلة اللاجئين الفلسطينيين ليست مجرد مشكلة إنسانية يمكن معالجتها عبر توزيع المساعدات والخدمات، بل هي جزء لا يتجزأ من القضية الفلسطينية نفسها التي لا يمكن حلها من دون معالجة حقوق اللاجئين، وعلى رأسها حق العودة.
وعلى الرغم من أن التفويض الممنوح لأونروا من الجمعية العامة للأمم المتحدة يركز على تقديم الخدمات الأساسية للاجئين مثل التعليم والرعاية الصحية والإغاثة، لكن هذه الخدمات ليست سوى جزء من صورة أوسع. إن وجود أونروا بحد ذاته يعد تأكيداً مستمراً أن قضية اللاجئين الفلسطينيين لم تُحل بعد، وأن المجتمع الدولي لا يزال يعترف بمسؤوليته في هذا الشأن. هذا ما يجعل أونروا رمزاً سياسياً يُحافظ من خلاله على استمرار الحديث عن حق العودة ويعزز من فكرة أن هناك حقوقاً مشروعة للفلسطينيين يجب احترامها.
هذا الجانب السياسي هو ما يجعل أونروا هدفاً متكرراً للهجمات الإسرائيلية، التي غالباً ما تتخذ من ذرائع أمنية حجةً لتبرير تلك الهجمات. في الحقيقة، ترى إسرائيل في أونروا رمزاً للتمسك الفلسطيني بحق العودة وبقضية اللاجئين عنصراً لا يمكن إهماله في أي مفاوضات سلام مستقبلية. وبهذا، إن أونروا تكتسب بُعداً سياسياً يتجاوز مجرد تقديم الخدمات، لتصبح جزءاً من معركة الفلسطينيين للحفاظ على هويتهم وحقوقهم.
الآثار السلبية لعرقلة عمل أونروا
إن عرقلة عمل أونروا وعدم التعاون معها يؤدي إلى نتائج كارثية على المستوى الإنساني والسياسي. من الناحية الإنسانية، يهدد تراجع عمل أونروا حياة الملايين من اللاجئين الفلسطينيين الذين يعتمدون على خدماتها في التعليم والرعاية الصحية والإغاثة. ومع تصاعد الأزمات الاقتصادية والاجتماعية في المنطقة، تصبح هذه الخدمات أكثر أهمية لضمان الاستقرار وتجنب المزيد من التدهور.
أما من الناحية السياسية، فإن تهميش دور أونروا يعزز من الإحباط والغضب لدى الفلسطينيين ويزيد من احتمالية تصاعد التوترات في المنطقة. فأونروا ليست مجرد وكالة تقدم الدعم، بل هي أيضاً رمز للأمل وللتمسك بحقوق الفلسطينيين. إن محاولة تقويض هذا الدور يعني، بشكل مباشر أو غير مباشر، أن المجتمع الدولي قد تراجع عن التزامه بحل عادل وشامل لقضية اللاجئين الفلسطينيين.
بالإضافة إلى ما سبق، أن عدم التعاون مع أونروا وعرقلة عملياتها يوجه رسالة خطيرة تتعلق بعدم الالتزام بالقرارات الدولية واستمرار محاولات طمس حق العودة وتجاهل الأبعاد الإنسانية والسياسية للأزمة. على الرغم من أن إسرائيل تبرر خطواتها بذرائع أمنية، لكن هذه الادعاءات لا تستطيع إخفاء الأبعاد الحقيقية لهذا الموقف، وهي أن أونروا تشكل عائقاً أمام محاولات طمس حقوق اللاجئين الفلسطينيين وإنهاء قضيتهم. كما أنها تحافظ على حضور القضية الفلسطينية على الساحة الدولية، حيث تربط بين الوضع الإنساني والحقوق السياسية، مما يجعلها مستهدفة من قبل السياسات الإسرائيلية الرامية إلى تهميش قضية اللاجئين.
أونروا رمزاً للحقوق الفلسطينية
لا يمكن النظر إلى أونروا مجرد منظمة إغاثية تعنى بتقديم الخدمات الأساسية للاجئين الفلسطينيين، بل يجب فهم دورها ضمن السياق السياسي والتاريخي للقضية الفلسطينية. أونروا تمثل جزءاً من الاعتراف الدولي بحقوق اللاجئين الفلسطينيين ومسؤولية المجتمع الدولي في معالجة هذه الأزمة. كما أنها جزء لا يتجزأ من النضال الفلسطيني للحفاظ على حقوقهم وحق العودة.
إن دعم أونروا واستمرار عملها يعبران عن التزام المجتمع الدولي بحقوق الإنسان والعدالة، ويشيران إلى أن القضية الفلسطينية ما زالت حية في ضمير العالم. لا يمكن تحقيق السلام والاستقرار في المنطقة من دون حل عادل يشمل معالجة حقوق اللاجئين الفلسطينيين، وعلى رأسها حق العودة. ولذلك تبقى أونروا الأداة الأممية التي تذكر العالم بأهمية هذه القضية وتضعها في مقدمة الأجندة الدولية. ولهذا يجب على المجتمع الدولي أن يدرك أن دعم أونروا هو جزء من استراتيجيات بناء السلام والاستقرار في المنطقة، وأن عرقلة عملها لا تخدم سوى تعقيد الأزمة ودفعها نحو المزيد من التأزم.