أيهما أخطر: خطأ كتابة الهمزة أم تغيير النظام؟

12 أكتوبر 2024
+ الخط -

أحترمُ اللغويين دون شك، وأحترم حرصهم الشديد على اللغة العربية الفصحى، المدرسين منهم خصوصًا، الذين يصحّحون امتحانات التلاميذ الكسالى على ضوء شمعة، أو على ضوء أبجورة ذات عنق "فليكسيبل" كعنق زرافة.

أحترم خصوصًا المعلمين والمعلمات الذين مع الوقت اضطروا إلى وضع نظارات مقعرة على عيونهم لكثرة ما حدّقوا في الفاعل والمفعول به، ولكثرة ما أساءهم حال الحال. المعلمون الذين لا يحبّون قصيدة النثر، باعتبار أنّها مؤامرة صهيونية وغربية هدفها تخريب الهُويّة والتراث والدين والاعتداء على القواعد.

أحترم أيضا أنّ أغلبهم فقراء ومهتمون بالهمزات أكثر من اهتمامهم بـ "الهمزات" (تعني الغنيمة بالدارجة المغربية)، مهتمون بالضمائر أكثر من اهتمامهم بالضمير، مهتمون بالنصب والجر أكثر من اهتمامهم بالنصب والاحتيال، مهتمون بجموع القلّة أكثر من اهتمامهم بمجموع الثروة السمكية ومخزون المغرب من الفوسفات. أحترمهم كثيرا مثلما أحترم أعمامي وأخوالي الطيبين في حرصهم على العاداتِ والتقاليد.

أحترم أستاذ اللغة العربية الستيني ذا اللحية المشذّبة ودرهم الصلاة على جبينه، وتزريره الدائم لياقة القميص البالي دون ربطة عنق، وحفظه عن ظهر قلب للمعلقات والمقامات وعدم امتلاكه سيارة ولا مزرعة ولا خيولا. حين سيمتلك كلّ ذلك لن يهمه، إن كانت الهمزة فوق السطر أم تحته، ما دامت داخل جيبه. ولأنّ هذا لم يتحقّق بعد، يعدّل نظارته ويخاطب أبناءه بصرامة، ببيتٍ هيدروجيني من الشعر لحافظ إبراهيم يمدح فيه الفصحى:

 أنا البحر في أحشائه الدر كامن... فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي

 بينما أطفاله يبحلقون، أحدهم يريد بلاي ستيشن والأخرى تريد تابلت، سوى أن المعاش غير كاف حتى لوجبة أسقمري كلّ أسبوع. 

هكذا، يُواصل السيّد اللغوي قاصفًا أطفال الجيل الخامس بقصيدة حافظ إبراهيم الصارمة. البنت تملك سناب شات، وتعتبر في سرّها أنّ والدها أحمق دون شك، وحين يتحدّث بكلِّ تلك الصرامة يكون لفمه بخر غريب، إلا أنّها تحبّه طبعا، وحسابها الشخصي السرّي يحمل اسم مغنيّة أميركية. زوجة الأستاذ اللغوي النحوي الطيّب جاوزت الستين أيضًا، وما زالت محافظة على حجابها كما لو أنّه قواف ومحسّنات بلاغية بديعية وجناس وطباق. إنّها معلمة أيضا. سوى أنّها أقل تشدّدًا من زوجها في ما يخصّ الهمزات والأخطاء اللغوية الشائعة. إنّها أم وهذا يلطّف روحها بحيث يصير للغة في فمها وعلى صدرها الكبير جدًا حنان العواقر ورأفة الله بعباده الخطائين. 

مهتمون بالضمائر أكثر من اهتمامهم بالضمير، مهتمون بالنصب والجر أكثر من اهتمامهم بالنصب والاحتيال

أحبّ كلّ هؤلاء اللغوين الأنتيكا، الذين لم تغيّر الحواسيب سباعية الأبعاد شيئًا من قناعاتهم القديمة حول ما يخصّ تصريف الفعل الماضي، ولم تغيّر الطائرات من دون طيّار شيئًا من نظرتهم إلى عيون المها في القصائد الجاهلية، ولم تغيّر ميكانيكا الكم شيئًا من وثوقهم في قاعدة تصريف الفعل في المستقبل أكثر من وثوقهم في المستقبل نفسه.

أساتذة الابتدائي الطيبون، ومصحّحو دور النشر، ومصحّحو المجلات والجرائد المليئة بالأخطاء الروحية، ومصحّحو الشعارات الحزبية العمالية واللافتات ويافطات الإشهار ونشرات الأخبار والوثائق الإدارية والدساتير والخطابات الملكية... عماد اللغة العربية وفقهاؤها، الغيورون عليها أكثر من غيرتهم على زوجاتهم، المناضلون الفراهيديون الأشاوس... الذين سيلاحظون الآن بحنق أنّي أضع هنا نقطًا في غير محلّها، عوض أن أضع فواصل، الذين لولاهم لما فرّقنا بين البغل الجار والعربة المجرورة. 

لقد أتعبنا عيونهم كثيرًا، وتسبّبنا لهم دون شك في أمراضٍ مزمنة ومتعبة كالضغط والسكري والروماتيزم والقولون العصبي والرمد، ونحن نرفع المنصوب وننصب المرفوع، ونحن نضع الهمزة تحت الاسم، ونحن نقول الغير صحيحة عوض غير الصحيحة، ونحن نكتب همزة في غير مكانها دون مسؤولية تُذكر. هل علينا كتابة هذه الهمزة فوق نبرة أم فوق الواو؟ إنّه سؤال وجودي عويص، يصير مع الوقت أخطر من سؤال تافه كهذا: هل علينا تغيير النظام السياسي الحاكم أو لا؟ 

بنياتنا الجسديّة النحيلة التي أنهكها الشراب والسجائر والتحديق غير المجدي في كتب الفلسفة المترجمة وقصائد النثر الكئيبة، لن تستطيع مقاومة لكمات اللغويين الصلبة والجافة

سؤالٌ تافهٌ دون شك، خصوصًا حين تُستعمل فيه "أو" عوض "أم". سيقول الأستاذ الطيّب مصحّح امتحانات المشاغبين ومحبّ الجذاذات: صحّح الجملة أولًا قبل أن تفكّر في تصحيح النظام السياسي. حسنا يا أستاذنا المبجّل سنصححها، فأنت ما تزال قويًا على ما يبدو ولكمتك على أنوفنا قد تكون قاتلة أكثر من هراوة المخازني. 

اجلسوا واحفظوا القواعد يا رفاق. إنّها سهلة للغاية. تحتاج فقط قليلًا من الذاكرة النشيطة، وقليلًا من الجدية، وقليلًا من سعة الصدر، وقليلًا من العسل في الشاي. 

أنا منذ عشرين سنة أحاول حفظها إلا أنّي أفشل، لكنّي سأنجح في ذلك يومًا ما. بنياتنا الجسديّة النحيلة التي أنهكها الشراب والسجائر والتحديق غير المجدي في كتب الفلسفة المترجمة وقصائد النثر الكئيبة، لن تستطيع مقاومة لكمات اللغويين الصلبة والجافة. إنّهم على حق في كلِّ الأحوال، وعضلاتهم تفوق عضلاتنا، كعضلات الآباء والأجداد القدامى الذين تدرّبوا على المحاريث الخشبية وحفر الآبار وجرّ العربات بنفس طريقة تدرّبهم على حفظ "الآجرومية" (كتاب في علم النحو) واستظهارها، بعضلات وليس بالصوت فقط. بينما عضلاتنا أفسدتها الإلكترونات والنوترونات والكواركات والتحديق الطويل في متاهة السيليكون.

محمد بنميلود
محمد بنميلود
كاتب مغربي من مواليد الرباط المغرب 1977، مقيم حاليا في بلجيكا. يكتب الشعر والقصة والرواية والسيناريو. صدرت له رواية بعنوان، الحي الخطير، سنة 2017 عن دار الساقي اللبنانية في بيروت.