إبراهيم هنانو وعصابات الجَتا
تشريق وتغريب (9)
ذَكَّرَني صديقي أبو أحمد، المقيم في مدينة إدلب، خلال اتصال جرى بيننا البارحة، بثلاث شخصيات ورد ذكرُها في أحاديثنا السابقة وأعجبته، هي: إبراهيم هنانو، وجدتي طيبة الزين، وعمي الصغير بهراوي الذي قتله الـ"جَتَا". وطلب مني أن نتوسع في الحديث عنهم، أو نشملهم بـالتشريق والتغريب.
قلت: حاضر. يا سيدي، جتا (çete) كلمة تركية تعني العصابة. ويبدو لي أن الثورات عندما تخفق تتحول إلى عصابات.. إبراهيم هنانو كان ثائراً حقيقياً، وكان رجل دولة مثقفاً، متعلماً، ذا كاريزما قيادية رفيعة المستوى، ومعروف أنه، خلال ثورته، كان يراسل قناصل الدول الأوروبية بلغة ديبلوماسية ممتازة، وهناك رسالة شهيرة هدد بها دول أوروبا قال فيها: نموت أو نَتَبَلْشَف ولا نتنازل عن استقلال سورية.
ابتدأت ثورة هنانو فور دخول الفرنسيين إلى دمشق ثم حلب في شهر يوليو / تموز 1920، واستمرت إلى أواسط سنة 1921، حيث قرر وقف الثورة. ولكن الرجال الذين كانوا معه كانوا يرغبون بالاستمرار، وطبعاً هو لم يعترض، لأن هذا شأنهم.. وبعد مغادرته تحول فريق منهم إلى قطاع طريق، جَتا (çete).. وصاروا يهاجمون دور الأغنياء في المنطقة، وينهبونها، ومنها دار جدي الحاج خطيب آغا.
- أريد أن أعرف كيف قتلوا عمك الوحيد "بهراوي".
- سأخبرك بذلك. ولكن، للأمانة، الجَتَا كانوا يأتون للتشليح، ولا يقتلون أحداً إلا إذا اضطروا لذلك. وكانت جدتي الحاجة طيبة، كما أخبرتك، امرأة شجاعة، وذكية، وعندما سألها أحد أفراد الجتا:
- أين تخبئين الذهب يا حرمة؟
ضحكت باستهزاء وقالت له: أنا عندي ذهب؟ الله يساعدني أنا خدامة هنا.
ومع أن ثيابها قروية إلا أن آثار النعمة كانت بادية عليها، لذلك لم يصدق العنصر دعواها بأنها خدامة، وبلؤم شديد، أمسك الطفل بهراوي، وسطحه على العتبة وأخرج السكين، وقال لها:
- هذا ابنك. إذا لم تحضري الذهب أذبحه.
قالت له برباطة جأش: هذا مو ابني. اذبحه. أنا ما لي علاقة. أنا خدامة.
قال أبو أحمد: عفواً أبو المراديس. بعد قليل يحين وقت انقطاع الكهرباء عندنا في إدلب. سأضع علامة على مكان قطع حديثنا
وبينما كان ممسكاً برأس بهراوي، اصطدمت أصابُعه بجسم قاس، تلمسه بيده مبعداً الشعر الطويل، فوجد قطعة ذهب (خزام)، كانت جدتي قد وضعتها في رأسه، وخيطت تحت جلد الرأس.. استبشر العنصر لمرأى الخزام الذهبي، ونتره نترة واحدة، فأصبح في يده، ووضعه في جيبه.. وبعد مغادرة الجتا الدار، هرعت جدتي إلى بهراوي، فوجدت رأسه ينزف، ولم يكن في البلدة، في تلك الأيام، أطباء، ولا أي نوع من أنواع الإسعافات. مات الطفل.
أشاد صديقي أبو أحمد بشخصية المرحومة جدتي طيبة، وأبدى أسفَه لمقتل عمي بهراوي على أيدي الجَتَا، ثم قال:
- الآن نشأت لدي مشكلة، أريد أن أطرحها عليك. أنت تتحدث عن إبراهيم هنانو بمحبة كبيرة، وتصف الجَتَا بأنهم عصابة، وكما حكيتَ لي، كانوا يقتحمون المنازل مثل عناصر المخابرات السورية، ويشتغلون في التشليح الذي يسمى اليوم (التعفيش). من أين حصلتَ على كل هذه التفاصيل؟
قلت: يا صديقي أبو أحمد. أنا أستطيع أن أحكي لك عن إبراهيم بيك هنانو مطولاً، لأنني، في سنة 1995، كتبتُ عنه، بالاشتراك مع المخرج منير فنري، فيلماً سينمائياً، لمصلحة المؤسسة العامة للسينما بدمشق. والمؤسسة تبنت الفيلم، ودفعت لنا حقوقنا المادية، ولكنها لم تنتجه لأسباب مكانُها ليس هنا. المهم، سليمان آغا هنانو، والد إبراهيم، كان مَلَّاكَ أراضٍ، من بلدة كفرتخاريم. سافر إبراهيم، في صباه، إلى إسطنبول، ودرس، ونجح، وتولى مناصب في الدولة العثمانية نفسها، منها قائمقامية أرظروم، وعاد إلى سورية، وتولى عدة مناصب مهمة، منها قاضي كفرتخاريم.. وقبيل دخول فرنسا إلى سورية 1920، كان منصبه ذا طبيعة سياسية، (رئيس ديوان ولاية حلب)، وهو المنصب الثاني بعد الوالي، والوالي اسمه رشيد طليع، درزي من لبنان.
- حدثني عنه أكثر.. فبما أنه قاد ثورة ضد الفرنسيين، فهذا يعني أنه بطل شجاع.
- بيني وبينك يا أبو أحمد؟ أنا لا أحب صفة البطل. وكل الشخصيات التاريخية التي قرأنا عن بطولاتها في الكتب، أصبحتُ الآن أشكُّ بمصداقيتها، لا سيما وقد قرأت عن بعضهم أشياء مخجلة.. نحن، في المحصلة، بشر لا أبطال.. أنا كنت أستغرب اللغة التي كانت كتبُ التاريخ تستخدمها في كيل المديح للرجال الذين شاركوا في الثورات على الفرنسيين، فكانوا يقولون، مثلاً: إبراهيم هنانو، الثائر، المجاهد، البطل، ذو النفس الأبية، الذي لم يقبل أن يغزو الغرباء المحتلون أرضَه، فحمل السلاح، وخطب في الرجال، فألهب مشاعرهم.. إلى آخره. ويقولون الكلام نفسه عن عقيل السقاطي الذي كان عمره في بداية الثورة 20 سنة، وبعدما غادر هنانو أصبح مع الجَتَا، وكانت له تجاوزات، وقتل سنة 1926..
- إذا لم يكن صحيحاً أن نصفهم بأنهم أبطال، فما هو الصحيح؟ وما الذي حصل على أرض الواقع؟
- بحسب قراءتي؛ عندما أعلن إبراهيم بيك هنانو الثورة على الفرنسيين في الأقضية الغربية لولاية حلب، (كفرتخاريم، وجبل الزاوية، وجسر الشغور، وبعض مناطق إدلب) إنما أراد أن يدافع عن دولته، باعتباره واحداً من أركان الدولة الفيصلية التي أقيمت في سورية بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، أواخر 1918.
- لم أفهم هذه الفكرة جيداً.
- الحكاية، ببساطة، أن أمير الحجاز، الشريف حسين بن علي، اتفق مع الإنكليز على محاربة العثمانيين وطردهم من البلاد العربية، مقابل أن تسمح له بريطانيا العظمى بإقامة مملكة في سورية ينصِّب عليها أحد أبنائه ملكاً.
- هل تقصد مراسلات حسين مكماهون التي قرأنا عنها في كتاب التربية القومية في الصف السادس؟
- بالضبط. المراسلات بين الشريف حسين ووزير خارجية بريطانيا هنري مكماهون عرفت بهذا الاسم. وبموجبها تم الاتفاق بين الطرفين. وعلى الرغم من أن كل شيء كان بتدبير الإنكليز، وقيادتهم، فقد علمونا في المدارس أن هذه الحرب ضد العثمانيين اسمها (الثورة العربية الكبرى)!
- معك حق يا أبو مرداس. فالعرب سموا كل حروبهم وانقلاباتهم ثورات.
- صحيح. وأضيف على كلامك: إذا نجحت الحركة تسمى ثورة، وإذا فشلت تسمى مؤامرة. المهم، أخي أبو أحمد، الإنكليز بعد اندحار العثمانيين وخروجهم من المنطقة بشكل نهائي، وفوا بوعدهم للشريف حسين بالفعل، وجاء الأمير فيصل بن الحسين إلى دمشق، في شهر أكتوبر/ تشرين الأول 1918، وأقام دولته في سورية..
قال أبو أحمد: عفواً أبو المراديس. بعد قليل يحين وقت انقطاع الكهرباء عندنا في إدلب. سأضع علامة على مكان قطع حديثنا.
(للحديث صلة)