إسطنبول... مدينة التناقضات الجميلة
تُقرأ المدن بأحيائها وشوارعها، كما تُقرأ الكتب بأسطرها ومفرداتها. والمدن العريقة أشبه بالكتب الفلسفية، تزيدك تعلّقاً بها. فكلّما تجوّلت بأحيائها وأعدت قراءة كلماتها، شعرت بأنك تزورها للمرة الأولى. وكلّ قراءة تحمل في طياتها مفاهيم جديدة لم تكن قد تنبهت لها في المرّات السابقة. ولطالما درست كتاب "الاستشراق" للمفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، لكنني لم أشعر، ولا مرّة، بأنني قرأته حدّ الإشباع. فكنت أطوف بين صفحاته مجدّداً لأجد نفسي أتعرّف على كلماته للمرة الأولى، وكأنني ما زلت أسبح على شواطئه ولم أبحر عميقاً بعد. لكن ما إن زرت إسطنبول حتى أحسست وكأنني أغوص في صفحات الاستشراق من بين جنبات هذه المدينة. لقد ذهبت بي إسطنبول في استشراق إدوارد سعيد حدّ الثمالة. هل كان يعلم سعيد يا تُرى حينما ألّف كتابه هذا أنه يكتب عن إسطنبول؟ هذه المدينة التي تؤكد نظريته تارةً وتدحضها تارةً أخرى، وكأنها تقول له أنا استثناء على هذا العالم، أو أنا اختصار لهذا العالم أجمع. من هنا بدأ التاريخ رحلته وإلى هنا سينتهي يوماً ما. هنا تتجمع ذواكر أهل الأرض جميعاً، تتصارع حيناً وتتصالح حينا.
في هذه المدينة التي يلفها الغموض والوضوح في آنٍ معاً، تجري العملية الذاكراتية بشكل مخالف لمجراها الاعتيادي. فما إن يزور المرء إسطنبول للمرة الأولى حتى تتهيّج عليه صور ماضٍ لم يخبره من قبل. جميعنا لدينا ذاكرة هنا حتى لو لم نزر هذه المدينة من قبل. ربّما أجدادنا مرّوا من هنا ذات حلم، فأورثونا صوراً دراماتيكية كانوا قد دفنوها في لاوعيهم عن غير قصد. هذه الصور ابتُعثت فجأة من تحت ركام تراثنا فاستوطنت وعينا الآني، نحن الغرباء عن أنفسنا، الغرباء عن ماضينا، وأبناء ماضٍ لم يكن لنا يوماً.
من هنا، من إسطنبول، بدأ التاريخ رحلته، وإلى هنا سينتهي يوماً ما
ها أنا أفتش بين جدران هذه المدينة عن صورةٍ لخال أمي الذي ابتلعه السفربرلك حينما جاء مدافعاً عن أسوار هذا الإرث العتيق. لم ألتقه يوماً لكنني أعرف ملامحه جيداً، فلطالما حدثتني جدتي عنه بحسرة المشتاق للغياب المرّ. لم أجد صورة له على هذه الأبواب الضخمة التي تحمل كلّ تلك الصور المتزاحمة بعضها فوق بعض. ولم يكن لاسمه نصيب في أرشيف هذه المدينة. كيف اتسعت هذه المدينة لأبناء كلّ هذي الأمم وضاقت على صورةٍ لخال أمي! هل تناسته الشوارع يا تُرى أم غيّبت ملامحه الحداثة.
ليتك كنت هنا اليوم يا سعيد لتكتب نظرية جديدة تليق بماضي وحاضر هذه المدينة. فلهذه المدينة شموس عدة، شمس سياسية تشرق من الغرب وتغرب إلى الشرق، شمس اجتماعية تنبض بالحياة لا تغيب عن وجوه أهل هذي الأرض، وشمس خجولة تطل أحياناً بصمت على مرهقي الأرض وعابري السبيل.