إعلام 2023 العراقي... ملعب إيراني ولاعب لبناني
بيروت والقاهرة ساهمتا بما نستطيعُ وصفه بـ: دورة القضايا الكُبرى في الرأي العام العربي. هاتان العاصمتان كانتا تعملان في تاريخ المنطقة المُعاصر، ولحدّ ما حتّى هذهِ اللحظة، كُعلبة "ريد بول" لتزويد الكلام الذي لا يُقال بعباس بن فرناس.
محمد حسنين هيكل اعتبر أنَّهما يُسهِّلان قيام الوطن العربي بتمارين يوغا ثقافية: "أنه من الضروري أن يكون للأمة في بعض المواقع منها منفذ ومتنفس ومجال -تتلاقى وتحتك وتتخابط فيه- عوامل الضعف والقوة، ونوازع الأمل والإحباط، ومشاعر الفرح والغضب". أو ربّما كرؤيتي التي التقطتها جريدة اللواء، وفي ما يخصُّ لبنان تحديداً: نشكرُ لبنان على مساعدته العالم العربي في نقلِ عضلاتِه من الذراع إلى الدماغ.
تقريرٌ عتيق لمعهد الصحافة الدولي في سويسرا، نُشِر في ستينيات القرن الماضي، يكشِفُ لنا أيضاً لماذا استطاعت العاصمتان أن تُنتِجا لنا خام برنت إعلامي: "مكاتب وكالات الأنباء الرئيسية موجودة في القاهرة، وأكثر مُراسلي الصُحف الكبرى الدائمين موجودون في القاهرة أو بيروت".
المُراسِلون والإعلاميون العرب والأجانب استخدموا العاصمتين كذلك لتحسين مكانتهم الإعلامية، بل وتجريب حصَّتهم من الميتافيزيقيا/ الحظ، إذ كان أغلب الزعماء في المنطقة يختارون وسائل الإعلام فيهما لتوصيل رسائل بنعومة الورد وحدَّة المخالب. التقرير السويسري نفسه كان قد أفشى ذلك ما بين سطوره: "إنّ الحصول على موعد لمقابلة أحد الزعماء يتوقف إلى حد بعيد على مكانة المراسل وعلى حسن طالعه أيضاً".
تكريرُ الأوطان إلى أقليَّات في القرن الحادي والعشرين، كما حصل في العراق، سورية، اليمن، وكما هو في لبنان منذُ زمنٍ بعيد، إضافة إلى توطين معظم مؤسسات الإعلام العربي في بيئاتها المحليَّة، بعيداً عن أجواء القاهرة وبيروت، أدَّى إلى وفرة التكنوقراط الإعلامي اللبناني، وجعل المعروض منه، أمام الفواعل اللاحكوميين في المنطقة، مثل المليشيات العراقية الموالية لإيران، متوفِّراً كغزالٍ بسعر أرنب.
تكريرُ الأوطان إلى أقليَّات، أدَّى إلى وفرة التكنوقراط الإعلامي اللبناني، وجعل المعروض منه، أمام الفواعل اللاحكوميين في المنطقة، مثل المليشيات العراقية الموالية لإيران، متوفِّراً كغزالٍ بسعر أرنب.
مؤسسة بيتُ الإعلام العراقي، والتي تُعنى بمراقبة أداء الإعلام في البلاد، بيَّن أحدُ أعضائِها، في 2022، أنّ "خمسين في المائة من القنوات الفضائية العراقية تأسّست خلال السنين الثماني الماضية، وإنها تعمل لنشر خِطاب العنف والتحريض الطائفي لصالح الجماعات المُسلَّحة".
نستطيع القول إنَّ العام الماضي توقف فيه الإعلام العراقي تقريباً عن كونه مزواجاً مطلاقاً، من مشاربٍ حزبية مُختلفة. كانت هناك حركة زواج أقارب مُكثَّفة من النوع الطائفي والعرقي.
أولئك الفواعل اللاحكوميين ربحوا يانصيب المهارات الإعلامية اللبنانية، بفتحِ مكاتب لمنصاتِهم الإعلاميّة في بيروت لتُشرِف بشكلٍ أساس على استهداف سفارات الوعي العربي، بدون طرفٍ ثالث!
يا ترى هل يوافق الإعلاميون اللبنانيون على ذلك؟
الإعلامي اللبناني عباس زلزلي، مقدِّمُ برامج في "إن بي إن"، والذي يبدو بأنَّه مُرشَّح كي يكون مُدرِّباً إعلاميّاً، يعملُ على الأرض العراقية، يظنُ أنَّهُ سيكونُ ناجياً من بيئة الإعلام العراقي العابر للحدود الوطنية، والمُبتلى بالاتجاه الشرقي: "أعرف الواقع العراقي جيداً، وأعرف أنَّهُ مستقطب سياسياً، ولكن أنا معروفٌ عني الاعتدال والموضوعية ولن يجرَّني أحد إلى مكانٍ لا أُريده، وحتى في لبنان اتبع هذا النهج".
زلزلي لديه رأيٌ متواضع بالإعلام العراقي، في الوقت الحاضر: "إنَّ هناك الكثير من القنوات الناطقة باسم الجهات والأحزاب والتيارات تحوَّلت إلى منبر، منصة تلقين وتأثير، وغسل أدمغة". وعن إعلام البلاد قبل 2003 وما بعد: "عراق اليوم من ناحية الإعلام والثقافة ليس عراق زمان".
مهدي منصور، وهو شاعِرٌ وأكاديمي لبناني، يستعد لإعطاء دورات تدريبية في العراق أيضاً، رفض في بداية الأمر أن يؤكِّد لي أنَّه قادمٌ للعراق من أجل إعطاء دورات، عن طريق "أكاديمية أفنان الإعلامية"، والتي أسسها شريكٌ لبناني، هو الإعلامي محمد البندر، الذي كان يعملُ سابقاً في قناة المنار، المُرتبِطة بحزب الله، وحيثُ الشريكُ العراقي غيرُ معروف. البندر لم يجِد حاجة مُطلقاً للإجابة عن أسئلتي، والتي كان جوهرها استعانته بطيفٍ من الخبراء، المُتطامنين مع أفكار المقاومة، بنُسخةٍ إيرانية وجغرافيا لبنانية.
جواب منصور الأول: "لا علم لي بهذا الأمر". نُسخة جوابه الثانية، وزمنُها كالأولى، في نهايات 2022: "فهمت الآن أنهُ نُشِر إعلان لدوراتٍ تدريبية واسمي فيها. قد أحضر الى العراق للتدريب، ولكن لوقت قصير وليس الآن. ربما العام المقبل".
ارتفاع منسوب المال الفاسد السياسي (العراقي)، في المصارف اللبنانية، سيحتاجُ ملاءة دعائية، تُخفيه وهو أمام عيون الجميع
الزميلة أورنيلا سُكَّر، رئيسة تحرير "أجيال القرن 21"، ترى الإعلام العراقي أنّه رغم كُل شيء "ممتاز". سُكَّر نفت مُطلقاً أن يكون لديها علم بعدد الإعلاميين اللبنانيين العاملين في العراق، كما وجدت أن هناك فرقاً بين جبل أمانينا عن الإعلام ووادي الواقع: "الإعلام المنصف، المهني، والحيادي شيء جميل، لكنه غير ممكن مع الأسف في زمن الاستقطاب السياسي، الطائفي، وصعود النبرة القومية".
إذاً ما هو واقع الإعلام العراقي في 2023؟
المُرجَّح ازدياد نسبة التكنوقراط الإعلامي اللبناني في بيئة الميديا العراقية. هؤلاء التكنوقراط سيكونون من نواد عقائدية مُحدَّدَة. ارتفاع منسوب المال الفاسد السياسي (العراقي)، في المصارف اللبنانية، سيحتاجُ ملاءة دعائية، تُخفيه وهو أمام عيون الجميع. هذه الملاءات ستشطفُ بدورها الأموال، في مزيدٍ من (الغسالات) المؤسسات الإعلامية، والتي سيكون نصفها "بيروتي" والآخر بغدادي.
الموجة الجديدة التي تضرِبُ ساحِل الإعلام الحزبي في العراق، والعاملة في مؤسسات تعود إلى "الفصائل الولائية"، بحسب الأدبيات الأنيقة اللفظ، لها دورٌ أيضاً، في زيادة الملح اللبناني في الإعلام الحزبي. إذ إن الموجة الجديدة والأنيقة، والتي يُعاني بعضُ موجِها من الأُميَّة الإعلامية، وتواضع الخلفيات الثقافية، تحتاجُ للاعتماد على مهنيين من خارج الحدود، لا يجلبون لوحهم التنافسي للركمجة على أمواج غيرهم!
أهمُّ ميزة في هذه الموجة الجديدة أنّ الراكبين دعائيون محترفون، بل إنَّ بعض رذاذِها وصل إلى المكتب الإعلامي لرئاسة الوزراء. الطريف أنَّ مؤسسة واشنطن البحثية حذَّرت رئيس الحكومة الجديدة في العراق من أنهُ من الممكن أن يتعرَّض للعقوبات بسبب ذلك.
الزواج ما بين إعلام الأحزاب العراقية والمهارات اللبنانية، وبالشروط الواقعة، سيدفعُ بلاد الرافدين، وباستعارتنا لكلمات هيكل، إلى: "الغرق في بحرٍ من الكلام لا يقول شيئاً ولا يُحرِّك إلى فكرٍ أو فعل". سنة 2023 مُتخمة بسيناريوهات عدَّة، يُشير جُلُّها إلى الشرق لا المشرق.