إنهم يكتبوننا: مقاربات في وصفة الاستبداد
جاءت وفاة الروائي، ميلان كونديرا، قبل أسابيع، لتعيد جدلاً لم ينتهِ، حول علاقة الأدباء والمثقفين عموماً بالسلطة، ومدى انسجام أعمالهم الفنية مع أفكارهم السياسية. جدلٌ يقترب من مفهوم "الالتزام" الذي ساد في حقبة واسعة من تاريخ الأفكار، والذي يعني أن يكرّس المرء نفسه، عملاً وتنظيراً، لِما يؤمن به من مبادئ وتصوّرات. وما يزيد من استدعاء "الالتزام" في حالة كونديرا، معاناته من فترات قاسية في حياته، عندما كان يُعمل فكره من داخل منظومة أفكار شمولية، ترفض وجود نشاز داخلها، ولا تتوانى في تعنيف الخارج عن الرواية الرسمية، ولو تلميحاً.
فيما خصّ منطقتنا، استُعيدت أعمال كونديرا (أو أُعيد اكتشافها)، ضمن عدد من الكتب والمؤلّفات التي تُعنى بنقاش الأفكار السياسية والفلسفية، سيّما إذا تناولت علاقة الفرد بالسلطة، وعلاقات الأفراد في ما بينهم في ظلّ هذه السلطة. فقد مثّل الربيع العربي انفجاراً مدويّا. ولعلّ هذا هو الوصف الوحيد محلّ الاتفاق، من بين كلّ الخلافات حول طبيعة تلك الأحداث التي عصفت بمنطقتنا منذ أكثر من عقد.
الانفجار لم يتمثّل فقط في مدى الاضطرابات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وإنّما كذلك تزامن مع انفجار معرفيّ ضخم، من الكتب والمنصات والأعمال الفنية والأدبية، ما أُمكن لمدارك الكثيرين أن تنفتح على مفاهيم فكرية وتجارب إنسانية، من ضمنها جدلية الحرية والاستبداد، وإجراء المقارنات والإسقاطات بين التنظيرات وبين الواقع المُعاش، بشكل لم يكن ممكناً إدراكه من قبل، إن لم يكن بسبب توّفر الوسيلة المعرفية، فبسبب عدم تصوّر مناخ تُتدوال فيه هذه الأفكار بشكل أريَحي، مع شعور حقيقي بأنها تعنينا على نحو ما.
"طبائع الاستبداد ومصارع الفساد"، هو عمل كلاسيكي لعبد الرحمن الكواكبي، يمكن اعتباره "كُتيّب إرشادات" يوضّح الآلية التي يعمل بها المستبد، ما جعله مرجعاً لا غنى عنه في تعرية جسد الاستبداد وتشريحه، وتصوير حال المجتمع الذي يستحكم فيه.
وُضع الكتاب إبّان الاستبداد الحميدي مع نهاية الدولة العثمانية، ويذهب بعض المؤرخين إلى أنّه كان سبباً في اغتياله.
ورغم قِدم الكتاب، واختلاف الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بما في ذلك أنماط الاستبداد نفسه؛ إلا أنّ العمل لم يفقد راهنيته ولا فعاليته، كونه لم يُكتب عن نظام حكم بعينه، وإنما عن الاستبداد بما هو فلسفة، تتجاوز أطر المكان والزمان والخصوصيات الثقافية.
وأما "حـفـلة التيـس"، فهي رواية للروائي البيروفي، ماريو بارغاس يوسّا، وتتحدث عن الرجال الذين عزموا أن يكون تاريخ الثلاثين من شهر مايو/ أيار 1961، موعداً لاغتيال القائد، المُنعِم، أبي الوطن، صاحب الفخامة، الجنراليسمو رافائيل ليونيداس تروخيو مولينا، الذي حكم جمهورية الدومنيكان لثلاثة عقود بالحديد والنار، والذي لُقب شعبياً بـ"التيس"، بما ينطوي عليه هذا اللقب من معنى الفحولة والهيمنة.
في سنة اغتياله، ورغم كلّ الألقاب التي تُبجّله، لم يكن القائد يملك منصباً رسمياً واحداً، فقد كان للدومنيكان في هذا التاريخ رئيسها ووزراؤها، مع ذلك فإن "تروخيو" الذي يهيمن أولاده وأصهاره على مفاصل الحكم، لم يكن يشعر بأنه يحتاج لمنصب رسمي لكي يمارس "فحولته" على الشعب، والتي ظلّ ممارساً لها بالتزام كامل، كما يُتوّقع من مستبد قدير، حتى انتهى في ظهيرة ذلك اليوم من أيام مايو/ أيّار.
عند الترجمة إلى العربية، يكون صاحب الفخامة، المنعِم، أبو الوطن الجينراليسمو تروخيو، هو الأخ القائد، الخالد، الثائر، والمعلم والأب.
وعندما نقرأ تفاصيل سياسة "تروخيو" الداخلية والخارجية، لا يعود هناك شك في أنّ كل المستبدين قد استعملوا الوصفة ذاتها. وتكفي الإشارة هنا إلى تغيير اسم عاصمة الدومنيكان (سانتو دومينغو) لتُصبح "مدينة تروخيو"، ما يُذكّر بما حدث لعدّة مدن عربية غُيّرت أسماءها الأولى، بأخرى تحمل رموز وتواريخ "الثورة"، قبل أن يُغيّر العلم أو الاسم الرسمي برمته.
وأما كتاب "الثـورة الثقـافـية الصينية: مـقـدمة قصيـرة جـداً" للكاتب ريتشارد كيرت كراوس، فيعالج أضخم الأحداث التي شهدها العالم خلال القرن العشرين.
ولا يسع القارئ الليبي تحديداً، وهو يتصفح الكتاب، إلا أنّ يتذكر تلك المحاكاة التي جرت في ليبيا خلال السنوات الأولى لحكم "الفاتح". ففي عام 1973 أُعلنت في مدينة زوارة، النقاط الخَمس لما سُمّيَ بـ"الثورة الثقافية". وعلى غرار شقيقتها الصينية، استهدفت "الثورة" تدمير الفكر الذي اعتُبر "رجعياً"، ومحاربة كوادر البيروقراطية الإدارية، لكن على عكس الصين، لم يكن لدى الثورة الليبية أيّة رؤيا إيديولوجية متماسكة.
أنت دائماً تحت ناظريْ الأخ الأكبر، الذي سيَحميك إن كنتَ مطيعاً، وسيَمحيك إن "ضللتَ" الطريق
ثم في عام 1977 نُشر "الكتاب الأخضر"، على غرار "الكتاب الأحمر" لماو تسي تونغ، لكن مع فارق أنّ "الأخضر" أصبح دستوراً للدولة والمجتمع، بينما الـ"الأحمر" ظلّ شبه مقدّس مجتمعياً فقط، ولفترة لم تستمر طويلاً.
أخيراً في مقابل "الحرس الأحمر" الصيني، دُشّنت "اللجان الثورية"، وهي مليشيات تحظى بدعم الدولة، وقد استطاع نظام "مـاو" ترويض الحرس الأحمر وتصفيته عقب تغوّله على المجتمع بأعماله الإرهابية. أما في ليبيا، فقد شكّل إرهاب اللجان الثورية، ضماناً لبقاء النظام نفسه، في الوقت الذي اتضح فيه افتقاده لأيّة شرعية، أيديولوجية كانت أم شعبية.
من جهة أخرى، تعتبر رواية 1984 العمل الأدبي السياسي الأشهر ربّما في عصرنا الحديث، وهو أيضاً، أنضج عمل يمكن أن نجد فيه وصفة الاستبداد كاملة المقادير، دون زيادة أو نقصان.
ما قدمه الكاتب جورج أورويل في هذه الدستوبيا، يتجاوز الحديث عن الاستبداد، إلى ما هو أخطر وأعقد بكثير، أي الفلسفة الكامنة وراء الشمولية، إلى الوسائل التي تتبعها في توطيد رؤيتها الهلامية وغير المحدّدة، على الشعب، طوعاً وكرهاً.
في الرواية، لا أحد يعرف تاريخاً "لأوقيانيا" قبل الثورة، وبمقارنة مع ليبيا مرّة أخرى، نشأت أجيال لا تعرف عن تاريخ بلدها شيئا قبل "الفاتح". وحتى الذين يتذكرون، يخالطهم كثير من الضبابية والشك. حتى إنّ كثيرين آمنوا (وما يزالون) بأنّ ليبيا وُلدت مع الفاتح!. وإذا ما مددنا الخيط على استقامته، نجد الاضطراب نفسه لدى السوريين في ما خصّ حقبة ما قبل البعث، وعند المصريين قبل ثورة يوليو، وعند اليمنيين قبل عهد صالح.
ما دام الحاكم هو الوطن، فمن الطبيعي أن يصبح مُعارضه خائناً للوطن!
في "أوقيانيا" تنتشر صور الأخ الأكبر في مُعظم الأمكنة المهمة، بملامحها الحادة تارة، والأبوية تارة أخرى، والتي ترمي لإرساء مفهوم واحد: أنت دائماً تحت ناظريْ الأخ الأكبر، الذي سيَحميك إن كنتَ مطيعاً، وسيَمحيك إن "ضللتَ" الطريق.
أبعدُ وأخطر من احتكار وسائل الإعلام وسرديات الوطنية والحرية، هناك "اللغة المزدوجة"، وهي أهم ركيزة في النظام الشمولي الذي لا يسعى فقط إلى الاستئثار بالسلطة، بل إلى تغيير طبيعة الأشياء. فليس ضرورياً أن يُوضع قاموس جديد للغة، تُحذف منه الأسماء والأفعال التي لم تعد مرغوبة الاستعمال، ليُضاف بدلاً منها كلمات جديدة مثلما حدث في الرواية، بل الأخطر أن تبقى اللغة المستعمَلة كما هي، لكن فقط تتغيّر دلالاتها، وما ترمز له من قيم ومعانٍ.
هكذا لا يعني حب الوطن سوى الولاء للقائد، والحرية لا تتحقّق إلا في العبودية لنظامه (الحرية هي العبودية كما في أوقيانيا = لا ديمقراطية بدون مؤتمرات شعبية في ليبيا). بل إنّ الحرية "تكمن في الحاجة"، كما تُقرّر عبارة هي من أسس فلسفة النظام الجماهيري، وإن كانت في غاية التناقض. أما المشاعر كـ"الحقد"، فتُنزَع عنها دلالتها الهمجية، لتغدو طقوساً مقدّسة، كما هو الحال في "أسبوع الكراهية" في "أوقيانيا". والخيانة كذلك لم تعد تعني قهر الشعب ومصادرة حقوقه، وإهدار موارد البلاد، وإنما تنقلب إلى معارضة الحاكم، وهذا استنتاج منطقي في الحقيقة، فما دام الحاكم هو الوطن، فمن الطبيعي أن يصبح مُعارضه خائناً للوطن!
أما الروابط النفسية التي تنشأ بين المستبد الكاريزماتي، وبين الفرد المقهور، فتكفي تلك الدمعة الساخنة التي انزلقت على خد وينستون وهو يرى صورة الأخ الأكبر، وتكفي مشاعر "اليتم والترمل" التي يُحسّ بها كثير من ضحايا الاستبداد اليوم، وهم يتذكرون عهود "إخوتهم الكبار"!.
كان الأمل أن يعقب "الربيع" تأطيرٌ مؤسساتي يتيح لبراعم الحرية أن تنمو، ويحميها من مخالب الاستبداد الطويلة، لكن يبدو أنّ التاريخ في منطقتنا دائماً ما يعيد نفسه على شكل مهزلة أبدية، كما قال ماركس. وبالطبع، ليس بالقراءة وحدها يُفلَت من قَدَر العَـوْد الأبدي هذا (ولكونديرا اهتمام كبير به!). لكنّ النظرَ في التجارب الإنسانية، قد يوفّر علينا أكلافاً باهظة، سبق أن دفعنا بعضها قبلاً.