إن غابت الدولة... من يقيّم المخاطر؟!
تقول لي طفلتي ذات الخمسة أعوام "النايا": "يجب أن ألا نأكل الكثير من الشوكولا لأنه يسبب ألماً للمعدة". وفي مرّة أخرى، طلبت مني ألا أعطي أخيها الصغير "مصاصة"، فهي خطيرة على الصغار ممن هم في عمر إدوارد (الذي يبلغ من العمر عامين)، لأنه، وبحسب النايا، لو دفعه أحدهم إلى الخلف، لدخلت المصاصة في حلقه.
إنّ ما قامت به "النايا" هنا هو عملية "تقييم للمخاطر". وهي عملية تلقائية نقوم بها كبشر لتقييم مخاطر أي سلوك سنقدم عليه. وهذه العملية نبدأ بتعلّمها منذ الطفولة، إما من البالغين أو من التجربة الذاتية، وتتطوّر كنتيجة لتراكم الخبرات، وتختلف من شخص لآخر، باختلاف التجارب التي يكتسبها كل إنسان في حياته أو تلك التي يتعلمها من الآخرين.
لطالما مارست عملية تقييم المخاطر هذه بشكل عفوي وبسيط. لكن قبل أن أتجه للعمل في مجال "أمن المعلومات"، لم أكن لأتنبّه إلى حقيقة أنّ هذه العملية بقدر ما تبدو بسيطة، بقدر ما هي معقدة. ففي هذا الحقل من العمل، تُعتبر عملية تقييم المخاطر وإدارتها ركيزة أساسية تسبق أي مشروع مهما صغر أو كبر. كما أنّ نظريات تقييم المخاطر على تعدادها واختلاف رؤاها تعتبر دساتير للمؤسسات والشركات التي تشتغل في أمن المعلومات. وعملية تقييم المخاطر تتدرج في مستويات من الشدّة والتخفيف من ناحية، والبساطة والتعقيد من ناحية أخرى. ويكون كلّ مستوى استجابة مباشرة للعمل أو المشروع الذي يُراد قياس مخاطره من جهة، وللشخص أو للجهة التي تريد تقييّم مخاطر هذا العمل. فمن يرغب في تناول وجبة طعام دسمة، على سبيل المثال، لن تأخذ معه مسألة تقييم مخاطر هذه الوجبة على صحته أكثر من ثوانٍ معدودة قبل أن يحسم أمره بتناولها أم لا. في هذا المثال، تكون عملية تقييم المخاطر في أبسط مستوياتها. أما من يريد أن يفتتح مشروعاً تجارياً، فيصبح أمام مستوى أكثر تعقيداً، يحتاج معه مزيداً من الوقت والدراسة والتحليل. وأشدّ مستويات التعقيد تكمن في المؤسسات الحكومية، سواء السيادية منها كالدفاع، الأمن والعلاقات الدولية، أو تلك التي تشرف على المرافق الحيوية كالصحة، الطاقة، إدارة السدود… فالحاجة إلى المشاريع في هذه القطاعات كبيرة جداً لكونها مرتبطة بسير الحياة العامة وشؤون البلد، لكن بالمقابل المخاطر المحتملة لهذه المشاريع هي بنفس مقادير الحاجة إليها أيضا، فاحتمالات حدوثها ينجم عنه مخاطر بأرواح الناس، أو تعطيل للحياة العامة جزئياً أو كلياً. وفي مثل هذه الفرضيات تُوضع نظريات تقييم المخاطر موضع التنفيذ بترجمتها إلى واقع عملي.
عملية تقييم المخاطر لا تساعد في تحديد المخاطر المحتملة وإدارتها فحسب، إنما تساهم في تحديد الأولويات أيضاً
وتقييم المخاطر عملية مستمرة تقوم على ذات المبدأ في إدارة المشاريع بالخطوات المتعاقبة: التخطيط، التنفيذ، التحقّق، التصحيح، وإعادة هذه الخطوات ما دام المشروع المرتبطة به قائم. وتهدف إلى تحديد كلّ التهديدات والأخطار الممكن حدوثها، وذلك بغاية إما تجنب الآثار الناجمة عنها، أو قبولها أو تحويلها لطرف ثالث. ومن أجل ذلك، يجب علينا تحديد أمرين أساسيين: الأول هو قياس احتمالية حدوث مثل تلك المخاطر: هل هي نادرة الحدوث أم إمكانية حدوثها واردة أو عالية؟ الأمر الثاني: هو ما الآثار المترتبة عن حدوث مثل هذه المخاطر هل هي نتائج هامشية أم كارثية؟
على سبيل المثال: تريد أن تنتقل للعيش في مدينة احتمالية حدوث الزلازل فيها واردة إلا أنها بسيطة جداً. لكن لو حدث زلزال، فالنتائج كارثية، وربما تفقد حياتك، وبالتالي فالمخاطر عالية. هذا قد يدفعك لرفضها والتفكير في مدينة أخرى. مثال آخر: ترغب في أن تشتري سيارة، وأنت تقطن في مدينة تكثر فيها سرقة السيارات. قد تقبل هذه المخاطر مبدئياً لكنك ستتخذ إجراءات لتجنّب آثارها، قد تبحث عن نوعية السيارات التي تكثر سرقتها في المدينة وتشتري نوعاً آخر، وقد تفكر في تركيب جهاز إنذار للسيارة، أو قد تتجنّب آثار هذه المخاطر بتحويلها لطرف ثالث، شركة التأمين على سبيل المثال.
وعملية تقييم المخاطر لا تساعد في تحديد المخاطر المحتملة وإدارتها فحسب، إنما تساهم في تحديد الأولويات أيضاً. فالدول التي تقيّم احتمالية وقوع زلازل، ستحدّد أولوياتها بناء على ذلك، وتتخذ إجراءات لمواجهة الآثار المترتبة على الزلازل، كمنع البناء في أماكن معينة، وتقليل الارتفاع في الأبنية وتخصيص ميزانية كبيرة للدفاع المدني وطواقم النجاة، وغير ذلك من الاجراءات. أما الدول التي تخشى خطر الفيضانات، فستُولي أهمية خاصة لبناء السدود وصيانتها. والدول التي تواجه تهديداً عسكرياً من جيرانها، ستخصص ميزانية أكبر للدفاع…
بعد أن ناقشت عملية تقييم المخاطر من السياق الفردي، الاقتصادي والحكومي، الآن أود مناقشة المسألة من جانب آخر هو: هل يمكن أن توضع عملية تقييم المخاطر في السياق الاجتماعي؟
إنّ كارثة الزلزال، الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سورية في فبراير/ شباط الماضي، تدفعنا لوضع المجتمع نفسه أمام عملية تقييم المخاطر، وذلك على غير المألوف. فعادة ما تعمل المؤسسات الحكومية التي غالباً ما تتبع بروتوكولات صارمة في مجال تقييم المخاطر نيابة عن المجتمع. لكن غياب وجود الدولة يستلزم أن تقوم منظمات المجتمع المدني، بمساعدة من المبادرات الأهلية والفردية والجاليات السورية في المهجر بهذه المهمة. سيناريو وقوع زلازل في المنطقة لم يكن مستبعدا، لكنه كان غائباً عن أذهان المؤسسات والمنظمات العاملة في سورية. على الجانب الآخر، كان استعداد تركيا في تخفيف آثار تلك الكارثة أكثر فعالية وتنظيماً، وذلك لوجود سلطة دولة ومؤسسات حكومية تعمل وفق خطط موضوعة مسبقاً بناء على تقييم مخاطر ووضع سيناريوهات محتملة. هذا ما لم يكن عليه الوضع في سورية، حيث وجد السوريون أنفسهم بشكل مفاجئ أمام كارثة لم يتخيلوا حدوثها، فكانت استجابتهم للحدث عفوية، تفتقد الاستعداد المسبق والتنظيم. وذلك مفهوم ومبرّر في ضوء الاندفاع للاستجابة السريعة للكارثة من جهة، وشعور السوريين بالتخلّي عنهم من قبل المجتمع الدولي من جهة ثانية، وبالتالي، كان يجب عليهم الاعتماد على أنفسهم.
غياب وجود الدولة يستلزم أن تقوم منظمات المجتمع المدني، بمساعدة من المبادرات الأهلية والفردية والجاليات السورية في المهجر بمهمة تقييم المخاطر
بذل السوريون في كلّ مكان جهوداً جبارة للتخفيف عن المتضررين. لكن كان من الممكن أن تكون هذه الجهود أكثر فاعلية، لو كان هناك استعداد مسبق، بناءً على خطط تقييم مخاطر افتراضية. ولم يكن ذلك ممكناً لغياب الدولة والمؤسسات الحكومية التي يُوكل إليها التصدي لهذه المهمة عادةً. ليس في الشمال السوري فحسب، إنما أيضاً في مناطق سيطرة الأسد. فالنظام ليس بأي شكل من الأشكال دولة، ولم يخلق مثل هذه المؤسسات. هذا الواقع يضع السوريين اليوم أمام فرضية تقييم المخاطر في سياق اجتماعي بهدف الاستعداد المسبق للتخفيف من آثار أي مكروه. وهنا سأحاول إعادة التفكير في الكارثة من هذه الزاوية.
أولاً، إنّ غياب سلطة دولة معترف بها من المجتمع الدولي في المناطق الخارجة عن سيطرة نظام الأسد حال دون إرسال الدول طواقمَ إنقاذ إلى المناطق الأكثر تضرّراً في سورية.
ثانياً، التأخر في فتح المعابر البرية من قبل الدول المجاورة للشمال السوري فاقم الكارثة.
ثالثاً، الأبنية في سورية متصدّعة أساساً بعد سنوات طويلة من الحرب، وخصوصاً قصف الطيران الروسي وطيران النظام المناطقَ السكنية.
رابعاً، وربما هو الأهم: قلّة معدات الإنقاذ، وخصوصا الحديثة منها، زادت من تكلفة الخسائر البشرية. وبكل تأكيد هناك أسباب أخرى تضاف إلى القائمة، لكن ذلك يحتاج لأكثر من مقال وأكثر من شخص واحد للإحاطة بجوانب أخرى من المسألة.
وجد السوريون أنفسهم بشكل مفاجئ أمام كارثة (الزلزال) لم يتخيلوا حدوثها، فكانت استجابتهم للحدث عفوية، يفتقد للاستعداد المسبق والتنظيم
وكما أردفت سابقاً، إنّ تهديد خطر الزلازل أمر محتمل. كما أنّ العمليات العسكرية لم تتوقف وخطر قصف طيران النظام والطيران الروسي للمناطق الخارجة عن سيطرتهم ما زال حاضراً. بالتالي تقييم المخاطر يجب أن يظلّ عملاً مستمراً، وعلى السوريين، أن يقوموا بذلك بأنفسهم من خلال وضع عملية تقييم المخاطر في سياقها الاجتماعي، وتخيّل السيناريوهات المحتملة ووضع الإجراءات والتدابير التي تخفّف من آثارها في حال وقعت.
وإذا أردت أن أفكر بإجراءات لمواجهة الآثار الأربعة التي ذكرتها قبل قليل، على سبيل المثال، فسيكون على الشكل الآتي: في الحالة الأولى وهي غياب سلطة الدولة، لا يوجد حل لهذه المشكلة بداية، فخيار الاعتراف الدولي بجهة ما ليس مرتبطاً بإرادة المجتمع السوري حالياً، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، لا يوجد إجماع اجتماعي سوري على أي ّجهة تمثل المجتمع السوري في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام. إلا أن هناك شبه إجماع لدى السوريين على قبول منظمة الدفاع المدني (الخوذ البيضاء) ممثلاً لهم. ومن الممكن مواصلة دعم هذه المنظمة اجتماعياً للعب دور سياسي أكبر، سواء خارجياً، خصوصاً أنّ لدى المنظمة دعماً سياسياً من بعض الدول، أو داخلياً بجعل المنظمة مظلة سياسية لمنظمات المجتمع المدني السورية الفاعلة في الواقع الحالي السوري. وتحقيق ذلك الأمر يحتاج دعماً جماعياً سورياً للمنظمة، وخصوصاً من الجاليات السورية في المهجر.
الحالة الثانية: لا يستطيع السوريون فعل الكثير لفتح المعابر، لكن بالإمكان التخفيف من آثار إغلاقها. هذه المسألة أيضاً يمكن فحصها من خلال تقييم مخاطرها بالكامل واتخاذ إجراءات بهدف ذلك. على سبيل المثال، تجهيز مستودعات أكثر في أماكن متفرقة، والتأكد من توافر الحاجات الأساسية على الدوام لفترة كافية.
على كلّ المجتمعات اليوم وضع عملية تقييم المخاطر في سياق اجتماعي والتصدي لهذه المهمة
الحالة الثالثة: تعزيز دور أهل الخبرة والاختصاص من مهندسي البناء والمقاولين في المنطقة لتقييم مخاطر وتطوير الإجراءات المناسبة لمواجهتها.
وأما الحالة الرابعة، وهي أكثر ما يمكن للمجتمع السوري، وخصوصا الجاليات في المهجر، فعله بعدّة أشكال، من خلال مشاركة الخبرات المختلفة التي يكتسبونها في الدول المضيفة على سبيل المثال. كالمساهمة بتوفير المعدات الكافية للإنقاذ من خلال التبرع لشراء تلك المعدات، والتواصل مع منظمات ومؤسسات حكومية في الدول التي يعيشون فيها للتبرّع بمعدات إنقاذ للشمال السوري. أيضاً، من خلال عقد ندوات عن مخاطر حدوث كوارث في المنطقة وتوجيه الناس للتبرّع لمنظمة الدفاع المدني، وذلك لتعزيز جاهزيتها.
ختاماً، إنّ الكارثة في سورية شكلت مسألة واضحة في مدى احتياج السوريين لوضع مسألة تقييم المخاطر في سياق اجتماعي بسبب غياب الدولة ومؤسساتها. لكن لو نظرنا أبعد من ذلك، فليس هناك مجتمع اليوم بعيد عن شبح سيناريو غياب الدولة. وليست الحروب وحدها من قد يكون سبباً لذلك، هل فكرنا في التغير المناخي، مثلاً، كسبب محتمل لعجز الدولة عن القيام ببعض مهامها تجاه المجتمع؟ الأوبئة كما حدث مع بداية ظهور وانتشار فيروس كورونا، هجوم سيبراني كبير، فيضان… وبالتالي على كلّ المجتمعات اليوم وضع عملية تقييم المخاطر في سياق اجتماعي والتصدي لهذه المهمة من خلال مفكريها، منظمات المجتمع المدني والمتخصصين، كلّ في مجاله.