استثمروا في مجلس وقصر الشعب واتركوا لنا مطار الشعب
تتسابق حكومات الدول لخدمة أوطانها والعمل على رفعتها. وهنا لا عبرة لحجم الجيوش، ولا لعدد السجون وشهرتها، ولا لضخامة قصور الحاكم، وإنّما العبرة بما يحقّقه هذا البلد أو ذاك، من إنجازاتٍ حضارية، تصّب في خدمة وسعادة شعبه، أولاً وأخيراً.
بعد أن وصلت سورية إلى طريقٍ مسدود، نتيجة الإمعان في السير على نفس الطريق التي أوصلت البلاد إلى هذه المحرقة، وما نتج عن ذلك من إفلاس تام على كافة الصعد... بعد كل ذلك، تبحث السلطة السورية اليوم عمن يستثمر مطار دمشق الدولي، في الوقت الذي كان عليها أن تُعلن عن فتح باب الاستثمار السياحي لكلّ من مجلس الشعب وقصر الشعب، هذا القصر الذي بلغت تكاليف بنائه ملياري دولار في ثمانينيات القرن الماضي. ومثل ذلك أيضاً، سجون الشعب الشهيرة، أسوةً بالقصور والسجون المماثلة عبر التاريخ، نظراً لما ستجنيه هذه "السياحة السوداء" من مبالغ طائلة على الشعب والوطن في آن.
وللتأكيد على صحة مقترحنا هذا، نسأل هنا: ما هو عدد السوريين الذين يدخلون، يومياً أو سنوياَ، إلى مجلس الشعب أو قصر الشعب مقابل من يخرجون ويدخلون من مطار دمشق؟
الإجابة تبيّن لنا أننا بحاجة ماسة إلى مطار دولي مدني حديث يحاكي بقية مطارات العالم ببنائه وتجهيزاته وكوادره وعدد طائراته.
بالمناسبة، حينما تأسّسّت الشركة السورية للطيران عام 1946، بدأت بطائرتين مروحيتين. واليوم، بعد مضي 76 عاماً، ها هي تملك طائرتين قديمتين، في حين تملك "طيران الإمارات" التي تأسّست عام 1985، بطائرتين مستأجرتين، أكثر من (180) طائرة حديثة، وتملك قطر (230) طائرة، بينما تملك مصر (80)، والأردن (24)، ولبنان (11)، أما سودان البشير فطائرة واحدة.
وعليه، من الأحق بالتضحية به: مجلس الشعب وقصر الشعب وسجون الشعب أم مطار الشعب؟ وللإجابة على ذلك يكفي التذكير بما آلت إليه حال قصور الحكام وسجونهم عبر التاريخ، والتي كانت مصدراً لخوف ورعب الرعية، ورعب الحاكم بنفس الوقت، قصور فاخرة تحوّلت بأسرارها إلى مزارات سياحية ومتاحف، تخليداً لذاكرة الشعوب الجماعية. وكذلك هو حال السجون، نظراً لما تختزنه هذه الأماكن، من أحداث وروايات وأسرار، يتوق البشر إلى معرفتها عبر السنوات.
ففيلا "تورلونيا" التي أقام بها الزعيم الفاشي بينيتو موسوليني تحوّلت بعد مقتله إلى متحف يرتاده الزائرون. ومثلها، قصر فرساي في باريس، وقصر فرانكو في مدريد، وكذلك الحال بالنسبة لمقر الزعيم النازي، أدولف هتلر، الجبلي في جبال الألب. نفس الأمر في ما يتعلق بقصور، بول بوت، في كمبوديا، والذي حوّل المدارس والجامعات إلى سجون، ومثل ذلك أيضاً قصر "بوكاسا" في جمهورية أفريقيا الوسطى.
قصور فاخرة تحوّلت بأسرارها إلى مزارات سياحية ومتاحف، تخليداً لذاكرة الشعوب الجماعية
من جهته شيّد الدكتاتور الروماني الراحل، نيكولاي تشاوتشيسكو، قصر الشعب، ثاني أكبر مبنى في العالم، بعد مقر وزارة الدفاع الاميركية، ثمّ تحوّل بعد شنقه وزوجته، إلى مقصد سياحي هام. بالمناسبة مرّة أخرى، تمّ بناء قصر تشاوتشيسكو بالتزامن مع بناء القصر السوري، لذا يتشابه القصران بضخامتهما وتكاليف كلّ منهما، وذلك في الوقت الذي كان فيه الشعبان يشهدان أزمة اقتصادية قاسية، نتج عنها حالة إفقار وتدهور بقيمة العملة الوطنية في البلدين، ما اضطر الشعبين السوري والروماني، إلى الوقوف في طوابير طويلة للحصول على المواد التموينية. ومثلهما كان حال الشعب السوداني، حينما قام عمر البشير ببناء قصره الأكبر في أفريقيا.
قصور، إن لم تتحوّل في حياة الحاكم إلى أمكنة يشعر الشعب أنه مالكها الحقيقي، ستكون عند رحيله مصدراً للنهب والتخريب. تماماً كما حصل لبعض قصور صدام، ومثلها قصور رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية، موبوتو سيكو، بعد فراره إلى المغرب، ومثلها أيضاً قصر القذافي (الطائرة الرئاسية) التي تتألف من حوض استحمام ساخن، وسينما، وغرفة نوم تُحيطها المرايا.
وكما كان عليه، حال قصور الحكام، كذلك كان الحال مع سجونهم ومنافي خصومهم. فسجن المناضل نلسون مانديلا مثلاً، تحوّل بعد سقوط نظام الفصل العنصري إلى مزار سياحي شهير، ومثله جزيرة سانت هيلينا، التي نُفي إليها نابليون بونابرت، وهو ما سيكون عليه بالطبع حال السجون السورية، كسجن المزة، الذي يعتبر الصندوق الأسود في التاريخ السوري الحديث.
ستكتشف أيها الزائر بنفسك أين قام الرفاق بزجّ الرفاق؟ أين زجوا بمؤسّسي حزب البعث، ورئيس الدولة والحكومة؟ ستستمع لحكايا عبد الحميد السراج الذي كان يذوِّب خصومه بالأسيد، ويزجُّ بهم في السجن، قبل أن يزجوه فيه؟
ستكتشف أنّ مشكلة سورية الأساس هي في شعبها الذي يصفق للرئيس القادم ويبصق على السابق، في الشعب الذي لم يحرّك ساكناً حينما قام الانقلابيون بتسريح ما لا يقل عن سبعمائة من كبار الضباط السنة، ثم ضباط الأقليات الأخرى؟! بل وستكتشف، أنّ المشكلة الحقيقية في أنّ غالبية من قادوا الانقلابات العسكرية عملوا لمصالحهم الشخصية والطائفية على حساب المصلحة الوطنية.
عانى "قاطنوا" السجون من القهر والتعذيب والحرمان، طيلة سنوات الجمر التي سكنوها
وكما هو حال سجن المزة، سيكون حال سجن صيدنايا المشهور بغرف الملح، ومثلهما بالطبع كلّ من سجني تدمر وعدرا. ستتعرف بنفسك أيها السائح، كيف عانى قاطنو هذه السجون من القهر والتعذيب والحرمان، طيلة سنوات الجمر التي سكنوها.
ستستمع لما كتبه ياسين الحاج صالح في كتاب "بالخلاص يا شباب"، ستقرأ "خيانات اللغة والصمت" لفرج بيرقدار، ستندهش كيف اعتقل مصطفى خليفة، صاحب كتاب "القوقعة"، 13 عامًا بتهمة الانضمام لجماعة الإخوان المسلمين، مع أنه مسيحي! ستنصدم حينما تستمع لهبة الدباغ "خمس دقائق وحسب! تسع سنوات في السجون السورية"، والتي اعتُقلت لأنّ أخاها متهمٌ بالانتماء للإخوان المسلمين، وحينما خرجت منه وجدت أنّ كلّ عائلتها قد قُتلت في حماه.
ستبحث في زوايا هذه السجون ودهاليزها كي تعرف ماذا صار بالطفل الذي حاول الراحل ميشيل كيلو، أن يقُصّ عليه حكاية "العصفور والشجرة"، وستبكي بغصّة حينما تجده رجلاً لا يجيد النطق. ستستمع لرواية "أجنحة في الزنزانة" لمفيد نجم، وهو يتحدث عن الأجنحة التي تنمو للمعتقل، ستقرأ لبسام يوسف "حجر الذاكرة"، ولمحمد ديبو "كمن يشهد موته"، ولغسان الجباعي كيف كتب كي يخرج من عتمة السجن، ولمحمد برو "ناجٍ من المقصلة"، ولعارف دليلة الذي حكم بسبع سنوات زيادة عن رفاقه، فقط لأنه من "عظام الرقبة"، ستقرأ مرثية آرام كرابيت لنفسه في "الرحيل إلى المجهول" لأنه أينما ذهب يرى نفسه حاملاً سجنه تحت إبطه أو قلبه أو ظهره.
في النهاية، نخلص إلى نتيجة مفادها: ما هي حاجة السوريين والسوريات لقيادات بعثية أو مجلس شعب، طالما لا يستطيع توجيه الأسئلة التي يتوق لمعرفة إجاباتها كلّ السوريين، على رأسها: من الذي أغلق منتديات ربيع دمشق؟ أين اختفى نائب الرئيس فاروق الشرع؟ أين عبد العزيز الخير وآخرون؟ ما الجريمة التي ارتكبها خليل معتوق ليبقى رهن الاعتقال؟ من أين جاء مصطفى طلاس ورفاقه بكلّ هذه النياشين؟ من الذي أوعز بإعطاء الدبابة الإسرائيلية التي صادرها الجيش السوري في معركة "مرج السلطان" لإسرائيل؟ من الذي سهل تهريب "تيجان دمشق"؟.
والأهم من كل هذا وذاك، من هو المسؤول عمّا وصلت إليه البلاد من حالة كارثية اليوم؟