استعمارٌ يكرهُ نفسه وأصلُ معاداة السامية
طرحتْ الفيلسوفة جوديث بتلر جدليةً حول انقلاب الأنا الكارهة لنفسَها في كتابها "الحياة النفسية للسلطة"، وهي فكرة تتموضع ضمن مصفوفة فلسفية تُشخّص الاضطرابات النفسية الناتجة عن سياساتِ الإخضاع التي تُنفذّها القوة/ السلطة. وهنا، تُشخّص بتلر ظاهرة انقلاب الأنا الكارهة لنفسَها، في تشخيصٍ للذات التي تشكلها السلطة، لضمان تبعية الذات لها. ولعلّ أجمل ما يثير الدهشة في جدلية بتلر هو سؤالها حول أسبقية الذات والسلطة: هل الذات تنتجُ عن السلطة أم أنّ السلطة تنتجُ عن الذات؟ فالسلطة، حسب بتلر، تجدُ نفسها من خلال الذات التي تُمَارسُ عليها سياساتُ الإخضاع والتشكيل الوجودي حسب معاييرها، فلولا وجود الذات لما كانت هنالك سلطة في الوجود أصلا! لكن الذات لا تصبح ذاتًا مكتملة الهوية إلّا إذا تخلّصت من تبعيتها للسلطة بحسب هذه الجدلية.
لذا تنطلق بتلر في جدليتها المبنية على تشخيصٍ نفسيٍ فرويدي، حيث لا يمكن فصل يهودية الطبيب النفسي سيغموند فرويد عن هُويّته المعرفية البنائية في علم النفس الغربي التأسيسي، ويستلهم فرويد تشخيصه من أهم العقد النفسية عند اليهودي، أيّ من ظاهرةٍ تاريخيةٍ اجتماعيةٍ سياسيةٍ في حقبةٍ مهمةٍ في تاريخ اليهود، أي الفترة التي كان يُمارس عليهم النبذ والتهميش في مراحل مبكرة من العصور الوسطى في روسيا تحديدًا، ثم في ألمانيا، وهو ما جعل اليهود يكرهون هُويّتهم التي تُجلب لهم التهميش والسخط والكراهية، والتي أصبحتْ كراهيةً فيما بين اليهود أنفسهم، وجعلتهم يختلقون صفة "اليهودي الكاره لنفسَه" تعبيرًا عن تلك الظاهرة السوداوية والاضطهادية.
يُعيدُ سؤال: من هو اليهودي الكاره لنفسَه؟ التذكير بسؤال: من هو اليهودي الجيد؟ خصوصًا في مرحلة النيوكولونيالية والعولمة المادية.
إذا كانت صفة الكراهية تُشكّل وصمةً دائمةً عند الجماعات المضطهدة على مرِّ التاريخ، فقد تأصلت هذه الوصمة من القوة المهيمنة التي تضطهد الجماعة المختلفة عنها، وتكتبُ التاريخ حسب سرديتها التي تشيرُ إلى روايةِ المنتصر القوي وصاحب الاستحقاق، فتنظرُ القوة المهيمنة إلى نفسها بأنّها صاحبة الحق بسبب قوتها، بينما تجعل الضعيف ينظر إلى نفسه بأنّه الآخر الذي شكّل هويته الضعيفة المهمّشة بسبب ضعفه، لذا تعملُ القوّة المهيمنة على جعلِ هذا الاختلاف مبرّرا للعنصرية والبربرية التي ترتكبها بحق الآخر المنبوذ، وتجعل من هذا الاختلاف صفةً دونيةً لدى الجماعة المضطهدة، كما تحاولُ القوّة أو السلطة المهيمنة التنصلَ من أيّة مسؤوليةٍ عن جرائمها بحقّ المضطهدين، وتلفق عنهم الروايات والسرديات المغلوطة لتجعلَ من الاضطهاد سببًا من أسبابِ التخلّف والكراهية بين أعضاء الجماعة المقهورة، التي يحوّلُ أعضاؤها الغضب إلى انقلابٍ داخلي بين أعضاء الجماعة المهمّشة الواحدة، بدلًا من مقاومةِ القوّة المهيمنة ودحضِ رواياتها المفتراة.
تنظرُ القوة المهيمنة إلى نفسها بأنّها صاحبة الحق بسبب قوتها، بينما تجعل الضعيف ينظر إلى نفسه بأنّه الآخر الذي شكّل هُويّته الضعيفة المهمّشة بسبب ضعفه
إحدى الروايات الملفقة في السرديات الاستعمارية أنّ العرب بربريون ولصوص وقطاع طرق، وأنّ حضارتهم انبنتْ بفضلِ الرومان ثم البيزنطيين ثم الصليبيين، وكأنّ العرب بلا قاعدة تراثية وثقافية وحضارية، وأنّهم كانوا قبائل بدوية تهتمُ بالإبل والنساء والماء، ولا سبت لديهم ولا ثلاثاء.
والآن، ما علاقة رواية "اليهودي الكاره لنفسَه" بالمصطلح الشائع جدًّا اليوم، وهو معاداة السامية؟ وللإجابة عن هذا التساؤل، يجب أن نتأمل مسألتين، وهما:
الأولى: اضطهاد اليهود الشرقيين الأصليين في فلسطين، وهم يهود السامرة في نابلس الذين يتجذرون في الأرض منذ أكثر من 8000 سنة، والأقلية اليهودية في الخليل التي تتجذّر من عائلاتٍ يهودية أشكنازية، سكن أفرادها بصفة رعايا في الإمبراطورية العثمانية، وشُرّدوا في المذبحة اليهودية سنة 1929، واعتبرت أملاكهم وبيوتهم أملاك غائبين حسب القانون الأردني المُستحدث في زمنِ الإدارة الأردنية للضفة الغربية، ولاحقًا، انتقلتْ ملكية هذه الأملاك إلى المستوطنين في البلدة القديمة في الخليل، التي يتمركز فيها الحرم الإبراهيمي، ولا أحد يعلم كيف استولى المستوطنون على هذه البيوت، سوى أنّ القانون الأردني أتاح للمستوطنين الاستيلاء على أملاك العائلات اليهودية الخليلية، من بينهم عائلة حسون وعائلة كاستيل.
الوجود اليهودي الفلسطيني الأصلاني في الخليل ونابلس قبل الاستيطان الصهيوني يُعرّي ويفضح الحركة الصهيونية
المسألة الثانية: اضطهادُ اليهود في القرن التاسع عشر في كلِّ من روسيا القيصرية وأوكرانيا، حيث ارتكبت مذابح كثيرة بحق اليهود هنالك، وكذلك اضطهاد اليهود زمن الحكم النازي الألماني.
إنّ المسألة الثانية شكلت ذريعةً لأجنداتٍ تأسيسية للحركة الصهيونية في أواخر القرن التاسع عشر، لكن من المفيد الإشارة هنا إلى أنّ تشكّل الحركة الصهيونية بشكلٍ رسمي جاء بعد تأسيسِ مستوطنات يهودية في فلسطين، حيث ضمنت الحركة الصهيونية الهجرات الاستيطانية مسبقًا من خلال منظمات أحبّاء صهيون في أوكرانيا. وتشير وثائق إلى التسهيلات التي منحتها الإمبراطورية العثمانية لليهود الروس والأوكرانيين بفضل العلاقات الوطيدة بين روسيا والعثمانيين في ذلك الوقت، في مواجهة التحالف الأوروبي الغربي ضدّ روسيا، ما يعني أنّ الحركة الصهيونية ومنظمات أحبّاء صهيون استغلت طيب العلاقات الدبلوماسية بين العثمانيين والروس، وشرعت بتمويل حركة الهجرة وشراء الأراضي الزراعية في شمال فلسطين بشكلٍ مبدئي.
إنّ القارئ تاريخَ الصراع الروسي الأوكراني الحالي يثير تساؤلًا حول أسباب اتهام أميركا وإسرائيل كلّ من يعادي ويخالف السياسة الإسرائيلية في الشرق المتوسط بأنّه معادٍ للسامية؟
لقد وصفت الحركة الصهيونية اليهود والأوروبيين المعارضين فكرتها بأنّهم معادون للسامية، والسامية هي اصطلاح يدل على أنّ اليهود والعرب (أصحاب البشرة الحنطية ومتوسطة البياض) من نسلِ سام ابن النبي نوح، وهذا يدل على أنّ وصف معاداة السامية يُقصَد به العرب تحديدًا، من أراد منهم مقاومة المشروع الصهيوني من العرب في باكورة المشروع الاستيطاني، فقد كانت الشتيمة جاهزة: "معادٍ للسامية".
معاداة السامية هي مدلولٌ سياسي وتصنيفي عنصري، لإرغام الأوروبيين والعرب على تأييدِ فكرةِ وطنٍ قومي لليهود، وكأنّه حق شرعي لوجودهم في المنطقة العربية مثل الوجود الأصلاني لأبناء سام العرب، وهو محض اعتقاد وخُرافة تتحايلُ بها الصهيونية على العالم، لصرفِ الوعي نحو تفاصيل تافهة تلغي الوعي بالفكرة الحاضرة السامّة والقاتلة، وهي شرعنة الوجود القومي لليهود في الشام على نظيرٍ من وجود العرب.
كلُّ أشكال الاستعمار حاولت طمس المعالم الأصلانية للأصول البشرية
يبقى مصطلح السامية قاصرًا عن الإجابةِ عن التساؤل حول أصلِ الجماعات البشرية في شرق آسيا، وأصل الهنود الحمر، فعلى اعتبار أنّ أصحاب البشرة السوداء هم أبناء حام ابن نوح، وأنّ أصحاب البشرة البيضاء والصفراء من نسل يافث بن نوح، وأنّ أصحاب البشرة الحنطية ومتوّسطة البياض من نسل سام بن نوح، فما هو أصل العرق المغولي والهنود الحمر والعرق الأسترالي "الأبورجينيز" الذي يرجح أنّه من أصول هندية آسيوية نظرًا لتشابه الصفات الجينية بينهم، وتُثبت الدراسات البيولوجية والأنثروبولوجية أنّهم موجودون في أستراليا منذ 60 ألف سنة، لكن الاستعمار الأوروبي القديم الذي كان يطوف على شكل عصابات قراصنة، وتلاه الاستعمار الكلاسيكي، ثم الاستعمار الحديث، حيث استكشف القارات واستعمرها وأباد أصحابها. كلُّ أشكال الاستعمار حاولت طمس المعالم الأصلانية للأصول البشرية، والادّعاء بأنّ هناك ثلاثة تقسيمات للأعراق البشرية من ثلاث سلالات تابعة لأبناء نوح الثلاثة: سام وحام ويافث، أليس ذلك استخفافًا بالوعي البشري؟
لقد شرّدت العصابات الصهيونية العائلات اليهودية في مدينة الخليل التي كان يبلغ عدد أفرادها في سنة 1929 حوالي 800 نسمة، وقُتل ما يقارب 70 يهوديا خليليًا في مذبحة واحدة، أمّا من نجا من اليهود فقد ذابت هُويّته في الهُويّة الإسلامية في المجتمع الخليلي، وهذا أسلوب نجاة وبقاء من هولِ المذبحة التي تعرّضوا لها، وبعض من نجى تشرّد في أنحاء متفرقة من فلسطين المحتلة. أمّا يهود السامرة، سكان جبل جرزيم في مدينة نابلس، فقد صمدوا أمام محاولات طمس الهُويّة اليهودية الفلسطينية، وحافظوا على موروثاتهم عن أجدادهم، مقابل أساليب الضغط والإغراء بالجنسية الإسرائيلية ليهود السامرة الذين يعتبرون أنّ إسرائيل الصهيونية كفر، وأنّ هيكل سليمان بني في نابلس "شكيم" وجرى هدمه، بينما هيكل سليمان في القدس هو فكرة تعبّر عن كفرِ الصهاينة بالنسبة ليهود السامرة.
إنّ الوجود اليهودي الفلسطيني الأصلاني في الخليل ونابلس قبل الاستيطان الصهيوني يُعرّي ويفضح الحركة الصهيونية، لذا علينا أن نعيد النظر جيّدا في الفكر الصهيوني الخبيث والواهي، والعلاقات التطبيعية مع الكيان الصهيوني، فكلما بحثنا عن حقيقة الكيان الصهيوني سنجد ادّعاءات ودراسات ووثائق مضلّلة، تحاول أن تكتب التاريخ وتسرده حسب معايير صهيونية بحتة، ولذا آن الأوان لتفكيكها وذرّها كالرماد في وجه أحبّاء صهيون الجدد "الكارهين لأنفسهم"، المتربعين على مناصب ومصالح استعمارية في أميركا وأوروبا والمطبّعين معهم.