اضحك مع يحيى الفخراني وإبراهيم المازني
لا يدري أحد كيف تحدث الكوميديا.. تكون، في بعض الأحيان، حزيناً، وساخطاً، وفجأة يخطر لك موقف يجعلك تفرط من الضحك، مثلما حصل، ذات يوم، مع الممثل يحيى الفخراني في مجلس عزاء، إذ انفجر بالضحك، بعد أن قال للحاضرين: كلنا لها.
ثم استرسل وقال لهم: عقبالكم جميعاً!!
وشرعت أنظارُ الناس الحزينين، والمتظاهرين بالحزن، تتجه إليه، وضحكه المتواصل أعداهم، فأصبحت الابتسامات ترتسم على وجوههم، وبعضهم حاولوا إخراجه من المكان، وفريق ثالث غلبهم الضحك، وصاروا يخبئون أفواههم بأيديهم، وعندما يقول له أحدهم (إمسك نفسك) يرد عليه: مش قادر بجد، امسكها معاي!
موقف يحيى الفخراني يحيلنا إلى قصة كتبها رائد الأدب العربي الساخر إبراهيم عبد القادر المازني (1889- 1949)، يصور فيها مأتماً للنساء، حزنُهن على الفقيد صد نفوسهن عن الطعام، فكانت السُفرة توضع أمامهن وتُرفع، دون أن تمتد إليها يد، وكان هذا الأمر مصطنعاً، ففي الواقع كنَّ يتسللن إلى خلسة إلى غرفة قصية، ويلتهمن من الطعام ما لا يحسب الحاسب.
وأما الأديب السوري الساخر الكبير حسيب كيالي فكانت له قصة عن رجل ذهب ليعزي برجل يعرفه، وبينما هو جالس في السرادق إذ راح يصله صوت أخت المتوفى تندب أخاها، وتعدد خصاله، تقول له: الله يرحمك يا أخي، يا أبو الكرم والجود، يا شجرة على درب (كناية عن الإباحة، وأن كل عابر سبيل يأكل من الشجرة ما يشاء ويتابع طريقه)!
أخرج أبو فايز من جيبه مبلغ ألف ليرة، وناوله لأبو طبلة، وقال له: خذ، ألف ليرة، حلال زلال عليك، واعطني وعداً بأنك لن تأتي لحضور مأتمي يوم أموت!
فيقول بطل القصة لنفسه: يا لطيف على هالكذب. المرحوم كان بخيلاً على نحو أسطوري، وكانت له عادة تدل على الجشع، إذ كان يزور السفارات الأجنبية، ويشمشم روائح الاحتفالات التي تقيمها السفارات بين حين وآخر، ويسجل مواعيدها على ورقة، ويذهب برفقة زوجته لحضورها، وبعد أن يلتهم وزوجتُه الأطعمةَ والأشربة، تفتح زوجته حقيبة يدها وتفرغ فيها ما تبقى على الطاولات من كيك وبتفور.. وتقول الأخت لأخيها لمتوفى: يا حبيبي، يا تقي، يا ورع، يا مُقَطِّع حصر الجامع (يعني من كثرة صلاته في الجامع تقطعت الحصر تحت قدميه)..
فيقول الرجل لنفسه: يا ساتر! ما هذا الكذب؟ والله إن المرحوم لم يكن يدير وجهه نحو القبلة حتى في المشي.
وتصف الأخت شقيقها المتوفى بأنه نظيف، رائحة المسك فاحت من مكان غسله، وهو يعرف عنه الاتساخ (والنشاحة).. إلى آخره.
يبدو عالم المآتم، على الرغم مما يتخلله من أحزان، عامراً بالنوادر الطريفة. كان عندنا في البلد شاب مصاب بمرض له علاقة بالغدة، إذ نما جسمه وتضخم حتى أصبح يضطر لدمج ثوبين مع بعضهما عند الخياط، ويرتديهما. وكان فقيراً، وفي الوقت نفسه شرهاً للطعام، وبما أن الطعام في المآتم متوفر ومجاني، فقد تسلح الفتى بأذن بوليسية تمكنه من سماع أذان الميت (سبحان مَن تفرد بالبقاء، سبحان من فرض على عباده الفناء، توفي إلى رحمته تعالى أخوكم بالله..) وبمجرد ما يلفظ المؤذن اسم المتوفى يكون قد أصبح أمام باب داره.. وقد لقبه أهل البلد "أبو طبلة"، يقصدون أن طبلة أذنه مرهفة السمع. وفي البلد، أيضاً، رجل مختلف عنه بالحجم، حاد الطباع، يعرف باسم "أبو فايز".. وأبو فايز يتطير من أبو طبلة، ويقول له كلما التقاه أثناء التعازي: صدقني يا أبو طبلة، أنت رجل فقير، وتحب الأكل، ومن حقك تجي على الجنازات حتى تاكل وتاخذ خرجية، لكن أنا بكرهك. وللإنصاف أنت ما عملت شي ضدي، أبداً، لكن أنا بكرهك هكذا، لوجه الله. يا أخي سبحان الله، بينما أكون أنا مسروراً، رائقاً، أراك فنزعج، ودمي يفور، وأحس بالكراهية تجاهك تتلبسني.
ضحك أبو طبلة عالياً وقال لأبو فايز: الله يسامحك.
وفيما بعد صار أبو طبلة يمازح أبا فايز، وكلما التقاه في مأتم أو جنازة، ويقول له: انتبه لنفسك يا أخي أبو فايز. شوفة عينك، الناس تموت يومياً.
وفي يوم من الأيام، بعد انفضاض مجلس العزاء، بقي أبو فايز ومجموعة من الشبان، بالإضافة إلى أبناء الرجل المتوفى. وكان أبو طبلة جالساً بالقرب من صينية الحلويات، فقال له أبو فايز: تفضل لهون أبو طبلة. أنا سأعرض عليك صفقة مفيدة.
تقدم أبو طبلة من وسط المجلس فقال له أبو فايز: أريدك أن تكون صريحاً معي وتخبرني، بحضور الشباب، الأكل والحلويات والأعطيات المالية التي تحصل عليها من حضور ثلاثة أيام التعزية الواحدة، كم تعادل من المال تقريباً؟
قال أبو طبلة: حوالي 500 ليرة.
أخرج أبو فايز من جيبه مبلغ ألف ليرة، وناوله لأبو طبلة، وقال له: خذ، ألف ليرة، حلال زلال عليك، واعطني وعداً بأنك لن تأتي لحضور مأتمي يوم أموت!
ضحك الحاضرون، وأبو طبلة تناول الألف ليرة، ودحشها في جيبه، وقال له: أنت تأمر عمي أبو فايز.
والتفت نحن الآخرين، وغمز لهم بعينه، وقال هامساً: سوف أحضر جنازته وتعزيته بالتأكيد. لأنه وقتها يكوناً ميتاً، ولن يستطيع أن يطالبني بتنفيذ الاتفاق!