الأصدقاء الحلبيون.. وليد إخلاصي
ذكرت لكم، في التدوينة التي تحدثت فيها عن صديقي الأديب الراحل خالد خليفة، أنني كنت أقوم بزيارات متكررة لمدينة حلب، في أيام الثمانينيات والتسعينيات، وألتقي مع مثقفيها في مقهى القصر، وقد أصبحنا، أنا ومعظمهم، أصدقاء.
أتابع، الآن، تدوين هذه الذكريات، محاولاً، قدر المستطاع، الابتعاد عن التقييمات السياسية (والثورية) للأشخاص..
كانت الطاولة التي يجلس عليها أبو خالد، وليد إخلاصي، الأكثر جاذبية في مقهى القصر بحلب، فكلما دخل أحدُ الأدباء، الأصغرُ سناً على الأغلب، ينضم إليها، ويطلب القهوة الإسبريسو (وهي المشروب الوحيد المتداوَل في هذا المكان) من النادل "نمر"، ويبدأ الإصغاء إلى الحديث الدائر، وأحياناً ينخرط في النقاش.
وكان كل واحد من هؤلاء الزبائن يدفع ثمن قهوته عن نفسه، إلا في حالة واحدة، وهي أن يأتي إلى المقهى وافد جديد، من الرقة، أو دير الزور، أو إدلب، أو حتى من حلب.. وفي هذه الحالة، تُقَدَّمُ القهوة للوافد ضيافةً من أحدهم.. وعلى ما أذكر أنني زرت المقهى مراراً، بصيغة الضيف، فمرة يدفع عني أبو خالد، ومرة محمد أبو معتوق، ومرة فؤاد محمد فؤاد، ومرة عمر قدور، ومرة فيصل خرتش.. دواليك حتى صرتُ زبوناً مداوماً، بإمكاني أن أدفع عن نفسي، أو أقدم الضيافة للآخرين.
وليد إخلاصي رجل أنيق في مظهره، وحديثِه، وأفكارِه، ذكي جداً، ينتقي عباراته بعناية كما لو أن العبارة التي يقولها في المقهى ستنزل في سياق إحدى رواياته أو مقالاته.. وكان يدخن البايب، على نحو مستمر، حتى أصبح البايب جزءاً من شخصيته، بمعنى أنك قلّما تشاهده بلا بايب، وحينما أصيب بمرض بالقلب، ذات يوم، وتوقف عن التدخين، سألته:
- تَرَكْت التدخين يا أبو خالد؟
قال بحسرة: لم أتركه، بل: تُرِّكْتُهُ.
ملاحظة: وخلال زمن ليس بالطويل، أصبح الروائي نهاد سيريس من مدخني البايب المدمنين.
وليد إخلاصي رجل أنيق في مظهره، وحديثِه، وأفكارِه، ذكي جداً، ينتقي عباراته بعناية كما لو أن العبارة التي يقولها في المقهى ستنزل في سياق إحدى رواياته أو مقالاته
وكان وليد إخلاصي واحداً من مثقفين حلبيين قلائل لهم جسور مع العاصمة، وعلاقات طيبة مع الأوساط الثقافية، ولم يكن مسيساً، بل يعتبره الجميع، تقريباً، شخصية عامة، بمعنى أنه من الصعب أن يُصنف في صف النظام، ولا في صف المعارضة، وبما أنه يحمل شهادة جامعية في الهندسة الزراعية (من جامعة القاهرة 1954)، فقد عُين بوظيفة مدير التسويق في المؤسسة العامة للأقطان، وقد زرته في مقر عمله عدة مرات، وكان يقول لي، دون أي ادعاء، وبلهجة حيادية:
- بتعرف يا خطيب؟ أنا، مِن هذا المكتب الصغير، أصدِّرُ القطن السوري!
وكان وليد إخلاصي يدعم الكتاب الجدد، إذا لزم الأمر، فيزكّيهم أمام مسؤولي النشر، أو يعطي الواحد منهم جرعةَ دفع معنوي، كأن يتحدث - في جلساته - عن كاتب جديد اسمه فلان الفلاني، مبرزاً موهبته، متنبئاً له بمستقبل باهر.. وهذه الخاصية كان يتحلى بها، كذلك، محمد جمال باروت، الذي كان يتجاوز حدود الدعم (الإخلاصية) بأن يحمل معه قصصاً وأشعاراً ومقالات لكتاب جدد إلى دمشق، أو إلى لبنان، ويقترحها على مسؤولي النشر، وغالباً ما تُنشر فيَفتح نشرُها لكاتبها الشاب أفقاً، وكان الأصدقاء الذين يجلسون في المقهى، إذا عثروا على نص أدبي سخيف، لكاتب ممن يدعمهم جمال باروت، يقولون له: الله يسامحك، ليتك أعفيتنا من عبقرية هذا الكائن السمج!
وكان جمال باروت يتصدر نشاطات ملتقى جامعة حلب الأدبي، وهو أول من دعم قصيدة النثر، التي كانت جديدة، وغير معترف بها، يومئذ، على صعيد الثقافة السائدة، وأصَّلَ لها نقدياً بكتاب عنوانه "الشعر يكتب اسمه"، وأظن أن شعراء مثل فؤاد محمد فؤاد، وعمر قدور، وبسام حسين، ولقمان ديركي، يوافقونني هذا الرأي، بل يزيدون أشياء أنا لا أعرفها عن أريحية جمال باروت، ودأبه على مساعدة الآخرين.
شارك وليد إخلاصي في اللقاء الموسع للقصة القصيرة الذي دعا إليه المركز الفرنسي للدراسات العربية بدمشق، سنة 2002، ونظمه كل من الدكتور جمال شحيّد وصديقنا الراحل حسان عباس، وأذكر أنني التقيت هناك، لأول مرة، بزكريا تامر، أستاذِنا الكبير الذي ترأس الجلسة التي قَدَّمْتُ فيها مداخلتي، وخلال السهرة اجتمعنا في أحد مطاعم باب شرقي، إلى طاولة تحلق حولها كل من زكريا تامر، ووليد إخلاصي، ومحمد كامل الخطيب، ومحسوبكم، ودار الحديث حول العناية الخاصة التي يوليها زكريا تامر بقصته القصيرة، وقال محمد كامل إن زكريا يعيد كتابة القصة عدة مرات، فأكد وليد على صحة كلامه، وقال:
- أنا أعرفُ - ولا أظن زكريا يعترض - أنه يعيد كتابة القصة الواحدة خمسين مرة!
أنا، وبكل صراحة، كنت أجد صعوبة في قراءة روايات وليد إخلاصي، ولكن هذا لا يعني رأياً نقدياً فيها، فلا ريب أن كثيرين يحبون أسلوبه، ويعتبرونه أفضل من غيره، ولكنني، مع ذلك، شديد الإعجاب بـ(الكاريزما) الثقافية التي يمتلكها، وقد كانت له تعليقات ذكية جداً على ما يجري من أحداث.. مثلاً؛ كان يحكي، في إحدى الجلسات، عن شخص اعتقلوه بتهمة الشيوعية، فقال:
- أنا واثق أنه لا يميز بين خالد بكداش، وبكداش صاحب محلات البوظة في سوق الحميدية!
وذات مرة، دعينا لحضور أمسية ثقافية في اتحاد الكتاب بحلب، ومن بين المدعوين كان ثمة فتى مدلل لدى الأجهزة الأمنية ورئاسة اتحاد الكتاب العرب في دمشق، اسمه يبدأ بحرف الحاء، وهو رجل دائم الاعتداد بنفسه، بمعنى أنه (مقنَزع)، ولهذا باشر بقراءة قصة على أساس أنها قصيرة، وإذا بها أطول من نهار بلا خبز، ولا يوجد فيها أية لمعة إبداعية، أو لقطة مدهشة.. وكنتُ، في تلك الأيام، أتعمد الجلوس خلال الأمسيات، بالقرب من الباب، لأنني مدخن شره، ولذلك فقد دفعني للخروج من القاعة عاملان، أولهما الملل من قصة الفتى المقنزع حاء، والثاني الخَرَم على سيكارة، فخرجتُ، وبعد قليل، خرج أبو خالد، وقال لي:
- أنا يا خطيب مواطن صالح. دافع كل الضرائب المستحقة عليّ للدولة، ولعلمك فإن جابيي الماء والكهرباء يُظهران أقصى حالات السرور عندما يقرعان بابي، فأنا أخصص طاسة، بالقرب من الباب الخارجي، أضع فيها قطعاً نقدية متنوعة، وفراطة، مخصصة لدفع الفواتير، فما إن يقرع أحدهما الباب، ويبرز لي إيصاله، حتى يكون المبلغ المطلوب، مع الإكرامية، في يده، ولذلك؛ لا يحق لأي إنسان في العالم أن يقرأ عليّ قصة قصيرة مدتها ساعة!
(للحديث صلة)