الإعلام الإسرائيلي واللعب على الحبلين
منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأوّل، شهدت وسائل الإعلام العربية حُمّى متصاعدة عنوانها "مصادر وتحليلات الإعلام الإسرائيلي"، وخُصّصت مساحات واسعة، بعضها يومي لمناقشة ما يصدر في الصحف، والقنوات التلفزيونية، والدراسات والتحليلات، وذلك في انعكاسٍ لحجم اهتمام الإعلام العربي به، واعتماده مصدرًا موثوقًا لفهم الآخر "الإسرائيلي"، وأنّ ما ينشره من بيانات ترتقي إلى مستوى كبيرٍ من الصحة والدقة!
وإن كانت متابعة الإعلام الرسمي والجماهيري لأيّة دولة تُعدّ طريقة أوّلية للتعرّف إلى مجريات الأحداث فيها، وثقافة شعبها وآرائه، واستكشاف تصوّراته لما يحيط به، فإنّ الإعلام الإسرائيلي يلعب أدوارًا تتجاوز المفترض والمتوقّع، بدءًا من نشأته التي سبقت إنشاء دولة الاحتلال عام 1948، مرورًا بتشعباته العسكرية والاستخباراتية، وانتهاءً بأدواره في توجيه جمهوره والتلاعب بالجمهور الفلسطيني والعربي، وهو ما دفع بعض الباحثين إلى اعتباره "دعايةً"، وليس إعلامًا بالمفهوم التقليدي.
ومنذ أيامها الأولى، راعت وسائل الإعلام الإسرائيلية الخط التحريري المحدّد لها، بل والقائم على أسس تكثيف الانتماء اليهودي إلى الدولة التي يُروَّج لها على أنّها الحاضنة ليهود العالم بعد الهولوكوست، والتركيز على تفوّق الدولة، والمواطن، والجيش الإسرائيلي على غيره من دول ومواطنين وجيوش، وتجسير الروابط الثقافية والسياسية والاقتصادية بين الدولة والدول الغربية، واعتبارها امتدادًا لمفاهيم الليبرالية والحضارة الغربية، وهو ما تطلّب من وسائل الإعلام طرح مضامين ليبرالية ورقابة على أداء مؤسسات الدولة وأفرادها، وصراحةً (ولو مصطنعة) أمام الجمهور، وقدرةً على النقد والمحاسبة.
هذه القدرة التي تغيب عن الإعلام العربي بشكلٍ متفاوت، هي ذاتها التي تمنح الإعلام الإسرائيلي قوته، وتجعله مصدرًا للأخبار والمعلومات، ولا سيما تلك التي تتعلّق بالدول العربية ذاتها، بأوضاعها الداخلية، اقتصاديًا وسياسيًا، بشخصياتها والتحالفات التي تدور في ثنايا القصور والثكنات، وبأوجه الفساد والظلم التي لا يتاح للمواطن العربي أو إعلامه التعبير عن رفضها، أو حتى وجودها.
وسائل الإعلام الإسرائيلي الخط التحريري المحدّد لها، بل والقائم على أسس تكثيف الانتماء اليهودي للدولة التي يتم الترويج لها على أنّها الحاضنة ليهود العالم بعد الهولوكوست
رغم هذه الميزة، فإنّ الإعلام العربي يتجاهل، مثلما تتجاهل أنظمته الرسمية، أنّ إسرائيل تعتبر نفسها دولة في حالة حربٍ دائمة، وهو ما يستتبعه بالضرورة أن يكون إعلامها حربيًا، وأن تكون رسائله موجّهةً، محفزةً، ومدروسة، وليست عشوائية، سواء لجمهورها الداخلي أو لمراقبيها من الدول العربية، بل إنّ الإعلام الإسرائيلي مجنّدٌ بشكلٍ طوعي لصالح خدمة أيديولوجيته وبقاء دولته.
ويظهر ذلك من أسلوب تغطيتها للحروب والأزمات التي خاضتها، حيث يجري التلاعب بأعداد الخسائر البشرية وتقليلها إلى أقصى حدٍ ممكن، وتأخذ تغطية الحروب نمط الاستطلاع بعيد المدى، ويُتجاهَل الطرف الآخر قدر الإمكان، وحين يُشار إليه تُنزع عنه صفات الآدمية، وتُسبغ عليه نعوت "البربرية والظلام".
يستشهد ناتان مندل (2008)، في مقالته التي حملت عنوان "تمويه الحقائق في وسائط الإعلام الإسرائيلية"، بهذا الأسلوب، حيث يقول: "عندما يتعلق الأمر بالأمن لا وجود للحرية، تتحول المسألة إلى طرفين، وتكون الغلبة للخطاب العسكري، كما تُمنع وسائل الإعلام الدولية من مواكبة الأحداث، ويتم نقل وجهة النظر الإسرائيلية".
وهو ما يؤكده عدنان أبو عامر، في كتابه "الإعلام الإسرائيلي: السلاح الأمضى في المعركة" (2009)، حيث يعتبر أنّ الإعلام الإسرائيلي مجنّد وأحادي الجانب، وبدلًا من تزويد الجمهور بمستجدات الأحداث، فإنّه يلجأ للتهويل والتستّر دون تكوين رأي عام واعٍ مدركٍ للحقائق، كما يتجاهل الرأي الآخر، لصالح تعبئة الرأي العام الإسرائيلي باستخدام أساليب التحريض وعدم الدقة.
وجميع هذه الحقائق والأجندات التي تؤكد أنّ الإعلام الإسرائيلي موجّه للتلاعب بجبهتين (الداخلية والخارجية)، تغيب تمامًا عن وعي الإعلام العربي. ورغم ما يُبرَّر من أنّ الاطلاع على إعلام الآخر جزء من فهمه، إلا أنّ سياق الطرح المجرّد وترك الحكم واتجاه التغطية للجمهور يجعل من هذا النقل نقطة ضعفٍ وخاصرة رخوة في وعي العربي والفلسطيني.
اللعب على الحبلين
بُعيد صدمة السابع من أكتوبر 2023، اعتبر محللون أنّ الإعلام الإسرائيلي استفاق من الصدمة وأدرك تبعاتها بشكلٍ أسرع من الحكومة وأذرعها السياسية والعسكرية، بل استطاع أن يرسم مشهدًا لما بعد السابع من أكتوبر وتبعاته.
رغم ذلك، فإنّ سياسات النشر والتحرير لم تكن مقيّدة بشكلٍ صارم يتوافق مع مصالح الحكومة والدولة في الأيام الأولى، حتى إنّها اعتبرت نشر تسريبات أحداث السابع من أكتوبر تحريضًا على الدولة، ومشاركةً في نشر الدعاية الانهزامية الكاذبة ضدها، لتُخفي بذلك جزءًا كبيرًا من حقائق الحرب ووقائعها عن جمهورها.
بعدها، بدأ الإعلام الإسرائيلي باستخدام أساليب مختلفة في تغطيته لعملية السابع من أكتوبر، تتنافى مع ما يدّعيه من قيم المهنية، من بينها توظيف معايير الكراهية والتحريض والعداء الصارخ والمطالبة بالانتقام واستخدام القوة المفرطة، ونزع معايير الأنسنة عن جميع الفلسطينيين دون استثناء، والمطالبة بقتل أكبر عددٍ منهم وتهجيرهم وإبادتهم. ورغم هذا الكمّ من المشاعر السوداء، إلا أنّ الإعلام ومحرّريه حاججوا مرارًا بأن الجيش الإسرائيلي هو الأكثر أخلاقية في العالم بأسره، وأن ما يقوم به ليس كافيًا لمحو مشاهد السابع من أكتوبر، فلسطينيًا وإسرائيليًا.
توظيف معايير الكراهية والتحريض الصارخ والمطالبة بالانتقام واستخدام القوة ونزع معايير الأنسنة عن جميع الفلسطينيين.. هذا ما يقدّمه الإعلام الإسرائيلي اليوم
كذلك شهدت تغطيته الإعلامية تداخلًا متكاملًا ما بين الإعلام والجيش، فمن المراسل الذي دخل إلى غزّة متحصنًا بمدرعة، إلى مراسلٍ آخر أعدّ تقريرًا يقدم فيه على تفجير مبنى فلسطيني، إلى إعلاميين ومحرّرين تحدّثوا بلغة جنديٍّ في الميدان، وليس ذلك بمفاجئ، لا سيما مع مجتمعٍ عسكري كالمجتمع الإسرائيلي، أغلب العاملين فيه ذوو خلفية عسكرية، ومنهم من عمل مراسلًا عسكريًا خلال قيامه بعمليات اقتحامٍ أو قتلٍ ميداني.
من أشهر هؤلاء الإعلاميين العسكريين، والذين يتداول الإعلام العربي تحليلاتهم بأريحية، ودون إدراك للمقاصد العسكرية وراء أقوالهم، روني شكيد، وروني دانييل، وألون بن دافيد، وإيهود يعاري ويوني بن مناحم، وناحوم بارنياع.
إعلام المقاومة.. اللعب على كلّ الحبال
يومًا ما، قال أول رئيس وزراء إسرائيلي، ديفيد بن غوريون، إنّ الإعلام الإسرائيلي وضع دولته على الخريطة، ومنحها شرعية دولية، وكرّس جدارة وجودها.
وبُعيد السابع من أكتوبر، استطاعت المقاومة الفلسطينية، ومن خلال إعلامها العسكري، وضع القضية الفلسطينية على الخريطة الإقليمية والدولية من جديد، ومنحها شرعية دولية وإنسانية وقانونية وتاريخية، بل كان للتضحيات والبسالة المتعاظمة الدور الأكبر في تكريس جدارة وجود الشعب الفلسطيني، وأهمية حصوله على دولته.
لا يتأتى ذلك عبثًا، إنّما بتسجيل المقاومة تقدّمًا لصالحها على الرواية الإسرائيلية وإعلامها، وذلك باستخدامها لآلياتٍ مختلفة، منها الخطابات العسكرية لقادة المقاومة من مختلف الأذرع العسكرية، مرورًا بمقاطع فيديو لرصد تحرّكات الجنود والآليات واستهدافها، وتوثيق غنائم المقاومة وخسائر الجيش، إضافةً إلى إحصاءاتها، التي أثبتت صوابها إلى درجةٍ كبيرة، ولا سيما مع ما كشفه الإعلام الإسرائيلي من إخفاءٍ للأعداد الحقيقية من الخسائر البشرية.
التقدّم الأكبر الذي حقّقته المقاومة كان اختراق جبهة الإعلام العربي، وتجاوز أطره ورسميته وصولًا إلى وعي الجماهير، وترسيخ مخرجاته كمصادر موثوقة للأحداث والوقائع، تجعله سيد القول والميدان، مقابل رواية مهزوزة متردّدة تأتي من ذاك الآخر.