الاستحقاق الرئاسي في لبنان.. تعنّت أم تعقيد؟
يعودُ الغموضُ ليخيّم على الملفِ الرئاسي في لبنان مرّة أخرى، حيث يبدو أنّ الشغور الرئاسي سيستمرُ لفترةٍ طويلة، في ظلِّ تعقيداتٍ داخليةٍ وإقليميةٍ ودوليةٍ متشابكة. هذا الوضع يعيدُ إلى الأذهان الأزمات السياسيّة المتكرّرة التي تعصف بلبنان، والتي جعلت من الصعب التوصّل إلى توافقٍ سياسيٍ يُفضي إلى انتخابِ رئيسٍ جديدٍ للبلاد.
داخلياً، تبرز حالة من التصلّب في مواقف بعض القوى السياسية التي تُصرّ على التمسّك بمواقفها المتعنّتة وتستخدم أساليب النكاياتِ السياسية، ما يجعل حلّ الأزمة أمراً شبه مستحيل، وتراهنُ (القوى) على تغييراتٍ إقليميةٍ قد تعزّز من موقفها، مما يدفعها إلى رفضِ أيّة دعوةٍ للحوار دون تقديم بديل مُقنع للطرف الآخر. وهذا التعنّت السياسي يعيدُ الأمور إلى المربّع الأول، ويعطّل أيّة جهودٍ دولية أو إقليمية تهدف إلى حلِّ الأزمة الرئاسية.
على المستوى الخارجي، كانت فرنسا من الدول التي بادرت بالتحرّك لمحاولةِ حلِّ الأزمة الرئاسية اللبنانية. فمنذ بداية الأزمة، عقد الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، سلسلة اجتماعاتٍ مع مسؤولين لبنانيين وغير لبنانيين، في مسعى للتوصّل إلى حلٍّ. كما أرسل وزير الخارجية السابق، جان إيف لودريان، إلى بيروت عدّة مرات، وقدّم مبادرةً شاملة تتعلّق بالملف الرئاسي وجبهة الجنوب. لكن الأزمة السياسية الداخلية التي تعيشها فرنسا بعد نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة، جعلت الاهتمام الفرنسي بلبنان يتراجع.
من جهةٍ أخرى، تستعدُّ الولايات المتحدة الأميركية للانتخابات الرئاسية المقبلة، ممّا يجعلها تنشغل بشؤونها الداخلية. وجاءت محاولة اغتيال المرشح الجمهوري للرئاسة، الرئيس السابق، دونالد ترامب، والإرباكات التي تلتها، لتزيدَ من تعقيدِ الوضع، ما جعل الإدارة الأميركية تركّز على قضاياها الداخلية في الوقت الراهن، ممّا يقلّل من فرص تدخلها الفاعل لحلّ الأزمة اللبنانية.
على القوى السياسية اللبنانية أن تدرك أنّ المراهنة على المتغيّرات الإقليمية والدولية لن تؤدّي إلّا إلى مزيدٍ من التعقيد والتأخير في الحل
اللجنة الخماسية، التي كانت تنتظر أن تؤدّي المبادرات المطروحة إلى فتح ثغرة تُمكنها من طرح صيغةٍ توافقيةٍ بين القوى السياسية، تبدو عاجزة تماماً، وغير قادرة على تقديم صيغةٍ توافقية، وهذا الفشل يعكس التعقيدات الكبيرة التي تُواجهها الحياة السياسية في لبنان.
أمّا جبهة الجنوب، فتلعبُ أيضاً دوراً كبيراً في تأخير الحلول. فرئيس حكومة إسرائيل، بنيامين نتنياهو، يضع عقبات كثيرة أمام محاولات التوصّل إلى هدنةٍ، ممّا يؤثُر بشكلٍ مباشر في الوضع اللبناني.
في ظلّ هذا المشهد، يرى مراقبون أنّ الحل الوحيد المتبقي لأزمة الرئاسة هو الحوار الداخلي. ولو كانت الكتل السياسية قد تجاوبت مع مبادرة الرئيس، نبيه بري، الحوارية، لكان للبنان رئيس للجمهورية قبل مغادرة الرئيس ميشال عون القصر الجمهوري، ولكانت المؤسّسات الدستورية مُنتظمة كما يجب. ويعتبر المراقبون أنّ الظرف ما زال مؤاتياً في حال توفّرت النوايا الطيّبة والإرادة الحقيقية لانتخاب رئيس. وإلا، فإنّ المناخات الحالية، سواء الداخلية أو الخارجية، تشير إلى أنّ لبنان قد يبقى دون رئيس لعدّة سنوات.
العديد من الدبلوماسيين، وآخرهم السفير الفرنسي، يحثون باستمرار على ضرورة الاستعجال في انتخاب رئيس وتشكيل حكومة مكتملة الأوصاف، لأنّ بقاءَ لبنان دون رئيس، وفي ظلّ الانكماش الاقتصادي والتجاذب السياسي، سيؤدي حتماً إلى الانزلاق نحو المجهول.
ختاماً، إنّ المشهدَ السياسي اللبناني معقدٌ للغاية، وتظلّ الأزمات الإقليمية والدولية تلعب دوراً كبيراً في تأخيرِ الحلول المُمكنة. ويتطلّب الوضع توافقاً داخلياً حقيقياً وإرادة سياسية قويّة للخروج من هذه الأزمة. والحوار الداخلي هو السبيل الوحيد المُتاح حالياً، وعلى القوى السياسية اللبنانية أن تدرك أنّ المراهنة على المتغيّرات الإقليمية والدولية لن تؤدّي إلّا إلى مزيدٍ من التعقيد والتأخير في الحل.