"البرغوثي" في ختام كأس العالم... وجهة نظر سوسيولسانية
إنَّ بلاغة تميم البرغوثي وحنكته اللّغويّة تكشف الستار عن نفسها في اللحظة ذاتها التي تُعلن فيها أنت استسلامك لفكرة انحسار سلطة المصرَّح به مقابل هيمنة المسكوت عنه، وإنَّ حيل الإدراك الجديد لعالم السياسة الجديد تُلزمك بإتقان مهارة القراءة الجديدة؛ كي ترى بوضوح كيفيَّة صياغة أيدولوجيَّة جديدة تعمل كموجِّه للوعي بالقضيَّة، جميعنا يعلم أنَّ كلماته القليلة هي غيض من فيض، استطاع بعبقريّته أنْ يُسوِّق خلجاته الوطنيَّة ضمن قالب رياضيّ استوجبته ضرورة الموقف، إنَّها تصوّرٌ حقيقيّ لواقع راهن وليست من الوهم في شيء، إنّما الوهم ما نُقنع به أنفسنا، ونخدّر به عزائمنا تجاه فكرة تحرير أوطاننا.
شَهِدَ ختام بطولة كأس العالم في قطر 2022 عرضاً استثنائياً مميّزاً، تخلَّل ذلك كلمة للشاعر الفلسطينيّ تميم البرغوثي، بكلمات لن يفهمها إلّا مَنْ أراد الفهم، ولا عزاء لمَنْ لا يفهم العربيَّة. إنّه شاعر من الطراز الأوّل، عُرف ببلاغته ورصانة لغته، استطاع تقديم كلمات ناهضة بالقضيَّة الفلسطينيَّة، إنّه ابن فلسطين، فلا عجب ممَّا يقول ويشعر؛ وقد أشاد الجميع باستضافة قطر للبرغوثي، يبدو أنّه لامس شغاف قلوبهم التي تتوق في كلّ وقت وحين -بشكل أو بآخر- إلى الحريّة والعدالة والمساواة. ترجّل بكوفيّته رمز فلسطينيّته يتغنّى بكلماته أمام العالم أجمع؛ ليخبرهم عن قصة وطن، وليس أيّ وطن؛ إنّها فلسطين، استطاع أنْ يبهر الجميع بكلمات معدودة موجزة صنعت جمالياتها من شرف المعنى وجزالة اللفظ، علاوة على المقاربة في التشبيه، كان لسان حاله يردد:
مَنْ كَانَ ذَا حُلمٍ وَطَالَ بِه المَدَى فَلْيَحْمِهِ |
وَلْيَحْمِ أيْضًا نَفْسَهُ مِنْ حُلمِه |
فَالحُلمُ يَكْبرُ أشْهُرًا في يَوْمِهِ.. |
وَيَزِيدُ ديْنَ الدَهْرِ حَتَى يَسْتَحِيل.. |
استطاع البرغوثي من خلال كلمته النثريّة -كما وصفها- أخذنا إلى مشهد المقاومة تارةً، ومشهد التحرير تارةً أخرى. إنّنا نرى فلسطين في كلّ ما يقول، عمد إلى تجسيد الواقع الفلسطينيّ الأليم تحت وطأة محتلّ متغطرس لا يعرف الحدّ الأدنى من معاني العدل والإنسانيّة، إنّ القضيَّة الفلسطينيَّة في هذا السياق غنية عن التعريف، وخصوصاً في مخيّلة هذا الجيل، الذي بات يتلقّى خطابات بأشكال متعدّدة؛ تلك الخطابات التي تبيّن عنجهيّة الاحتلال الإسرائيليّ، الذي بات يحوك سياسات مباشرة أو غير مباشرة؛ ليدحض كلّ ما هو فلسطينيّ. حيث "إنّ قيام دولة فلسطينيّة بحدود ما قبل النكسة بيوم واحد يضمن استمرار النكسة إلى الأبد". وفي قول أبيه الأديب الراحل مريد البرغوثي تصديق لكلامه، يقول فيه:
" المَرْءُ لا يَقْطَعُ هُوَّةً بِقَفْزَتَيْنِ، وَلَا يَجْتَازُهَا وَهُوَ معلّق في الهواء على مرحلتين، فاحذر هزيمة تتنكر في شكل نصف نصر، ليس طمّاعاً مَنْ يطلب المساواة الكاملة... لكن مَنْ يقبل أنْ يكون نصف إنسان؛ يصبح نذلاً بالكامل، فلا تنخدع، صفحة التاريخ أمامك، وقّعها حرّاً إنْ شئت، وعبداً إنْ شئت، والقلم في يدك".
إنّ اللّغة بصورها المتعدّدة من أكثر الوسائل مرونة للتعبئة في غياهب اللاشعور، وهذا هو سر الوعي الجديد لإدراك الكلام الذي قد يحمله النّاس على محمل هزليّ قاصر؛ بحيث تتجسّد المواضعات اللّغويّة نتيجة الرؤى والمواقف الفكريّة التي يتبنّاها الشخص
كيف استطاع البرغوثي بثّ صورة القضيَّة الفلسطينيَّة في مدارك الحضور من جديد في سياق يتحدّث فيه شكلاً عن لعبة كرة القدم، وكيف استُقبِل خطابه السياسيّ ضمن حدث رياضيّ في قالب لغويّ رياضيّ أيضاً؟ هو سؤال يُعزَى إلى الإدراك الذهنيّ الملازم بطبيعية الحال إلى الكلام المتداول، وهذا التلازم يبدو أكثر وضوحاً في السياقات الأدبيّة، باعتباره خصيصة من خصائصها، لكنّ قناعتنا تزجّ لنا بعكس ذلك؛ فغالباً حين نسمع القول السياسيّ، خاصّة عند أوّل تلقٍّ له؛ فإنّنا سرعان ما نبحث عن معانيه وتفسيراته؛ فيتبيّن لنا بعد ذلك أنّه لا ينتمي إلى نحو الكلام ومعجميّته، ولا إلى تركيب السياق أو تداوليّته، سنجده مبثوثاً على الشاشات وفي المخيال المُتْرس بالأحداث التي جار عليها الزمان، وقد أبدع البرغوثي لينتج لنا مزيجاً بين عالم السياسة وعالم الرياضة، ذلك الذي ينتمي إلى سياق اجتماعي تداوليّ، إنّه يزاوج بين حقيقة مضت، وحقيقة تتحضّر لتُولد من جديد، إنّه النصر المُستحق، والحقُّ المُسترد.
لا شكّ أنّ البرغوثي موقناً بكفاءة وفاعلية الخطاب الكلاميّ، سواء أكان ذلك شعراً أم نثراً، إذْ إنّ الكلام وسيلة بحدّ ذاته يقودنا إلى تحقيق تصوّر حرّ للعقول والمخيال الجماعيّ للأمّة، والمسوّغ في ذلك أنّ الحاضنة اللّغويّة -الشعريّة أو النثريّة- هي أحد أساليب الخطاب الموجّه؛ التي نضمن من خلالها القدرة على المناورة الفعّالة في سياق عالميّ متسارع، يكاد يكون فيه العدل والمساواة مجرد كلمات لا تحمل من معانيها إلا مسمّياتها، فالظلم أصبح منظّماً مُسيّساً لا فرار من ويلاته، وفي هذا السياق يحضرني قول حافظ إبراهيم:
لَقَد كانَ فينا الظُلمُ فَوضى فَهُذِّبَت حَواشيهِ حَتّى باتَ ظُلماً مُنَظَّما
إنّ اللّغة بصورها المتعدّدة من أكثر الوسائل مرونة للتعبئة في غياهب اللاشعور، وهذا هو سر الوعي الجديد لإدراك الكلام الذي قد يحمله النّاس على محمل هزليّ قاصر؛ بحيث تتجسّد المواضعات اللّغويّة نتيجة الرؤى والمواقف الفكريّة التي يتبنّاها الشخص، إذ إنّ المواضعات الفكريّة -من وجهة نظر سوسيو لسانيّة- ذات علاقة مزدوجة مع مفهوم السلطة والهيمنة من جهة، ومن جهة أخرى فهي تتلخّص في مفهوم السلطويّة الذي يمتلك طابعاً أيدولوجياً خاصّاً. ومن خلال خطاب كلمة البرغوثي؛ نستطيع أن نلمس دقائق خلفية أيدولوجيّة صارخة، اللّغة فيها مسخّرة لوصف واقع راهن من احتلال متغطرس على شعب أعزل، ومن هنا تتشكّل نظريّة الهيمنة والسلطة، وتبقى اللّغة أداة تنصف الواقع، وفي أحايين أخرى تكون أداة في يد سلطويّ متجبّر يناهض فيها العدل والمساواة.
ينسجم خطاب البرغوثي -في عمومه- مع إيمانه بعدالة القضيّة الفلسطينيّة، فقد كانت كلماته محبوكة ضمن إطار لغويّ دقيق استطاع رسم تصوّر فعليّ عن الواقع الفلسطينيّ من خلال تصويره بوقائع الحدث الرياضيّ الحاصل آنذاك، إذ إنّه أخضع صورة لعبة كرة القدم بأنّها زيارة لعالم بديل فيه من العدل والمساواة ما يُرضي طرفين متنافسين، كلاهما يخضع لحكم عادل أمام أعين النّاس كافة، بحيث لا يمكنه التلاعب بقوانين اللعبة أو التحيّز إلى فريق دون الآخر، وحمل رسالة قويّة من خلال تصويره للاعبين الذين يمكنهم التنقل في الملعب دون الحاجة إلى تأشيرات ليجتازوا خطّ الوسط، وفي نهاية المطاف "لم يسل إلّا العرق"، وهنا يشير إلى واقع الفلسطينيّ الذي يعاني الأمرّين في التنقل، سواء في بلاده أو خارجها، ليست هذه اللعبة بالنسبة إليه، إنّه شيء تقترحه الدول والشعوب للترفيه عن نفسها، وهذا ما يدعو المتعبين إلى اللعب. لقد كانت رسالة عميقة استطاع البرغوثي توجيهها بإيجاز جذاب وعبقري.
والجديد في هذا كلّه هو الإطار العامّ الذي وُضع فيه الخطاب اللغويّ، فمن منّا كان يتصوّر أنْ يكون البرغوثي متحدّثاً في حفل ختام المونديال! علاوة على ذلك، كانت رسالته واضحة في ما يتعلّق بالشأن الفلسطينيّ. وقد نجح في ذلك؛ أوّلاً: من خلال ارتدائه للرمز الفلسطينيّ، وهو الكوفيّة، ثانياً: من خلال كلماته التي أسمعت وأثلجت صدور قوم مؤمنين بعدالة القضيّة الفلسطينيّة وأحقيّتها بأرض فلسطين، أجل.. إنّها فلسطين من البحر إلى النهر، وما دون ذلك احتلال.