البرلماني الدبّيك راعي الأول
طريقة "أبو الجود" في المزاح والتنكيت غريبة. إذا كان جائعاً لا يُرْتَجَى منه خير، وإذا لم يوضع أمامه كأسٌ من الشاي الثقيل وعلبة مملوءة بالسجائر يصبح رجلاً بليداً لا ينكت، ولا يستجيب لنكات الآخرين. ولكن السهرة في بيت أبو إبراهيم حققت أمانيه كلها، فبعد أن تناول ما لا يحسب الحاسب من الرز والفريكة واللحم المفروم المخلوط بالصنوبر واللوز التركي المحمص والكاجو أشعل سيجارة ماركة الحمراء الطويلة من العلبة التي أحضرها له ابن خاله أحمد من سورية، وشفط من كاس الشاي شفطة ذات قرقعة، وانفلت بالضحك فجأة، وقال:
- أنا لحد هالوقت ما فهمت ليش فرع الحزب عَيَّنْ جارنا أبو نعيم دراز الخرقة بصفة عضو في مجلس الشعب.
قال له أبو جهاد: تضرب في منظرك يا أبو الجود. مو أنت قلت أنه دبك دبكة ممتازة في ذكرى الحركة التصحيحية، وضرب سلام تعظيم لصورة حافيييظ، وعلى أثرها عينوه في مجلس الشعب؟
قال: نعم أنا قلت، طبعاً، وحكيت لكم القصة بالتفصيل. بس يا أخي هاد الزلمة ما بيصلح للسياسة والمجالس. أنا عندي إلكن سؤال: هوّي مو حطوه عضو في مجلس الشعب بإسم العمال والفلاحين؟
قلنا له: أكيد. أنت اللي قلت هالشي.
قال: نعم. بس أنا مستعد أحلف يمين، وإذا طلع كلامي كذب أتحمل عقوبته في يوم القيامة، على أنه أبو نعيم ما بيعرف كيف تكون الفلاحة الصحيحة، ومرة من المرات راح ليحرث الأرض، حَطّ بقرة قصيرة مقابل كديش مرتفع، وشد عليهم النير، ولما بلشوا يحرثوا الأرض صار تقل النير وعدة الحراثة كلو على البقرة، وقعدت المسكينة في الأرض من قوة الضغط، وشالوها إسعاف إلى عيادة الطبيب البيطري، وفي هالأثناء الكديش قطع الرسن وهرب، ولما أجا صاحب الأرض وشاف هالشوفة طق عقلو، وقال لأبو نعيم (أنت خربت بيتي. بدي أغرمك بالعطل والضرر) وأبو نعيم صار يبكي وقال له: برقبتي عيال يا حاج. فعفا عنو. ومرة راح على حقل الزيتون منشان يقصقص الأغصان الزايدة، وبدل ما ياخد معو المقص، أخد المنشار، وصار يقص الجذوع الكبيرة، ويوقعها ع الأرض، ولما أجا صاحب الأرض تشاجر معو، وصاروا يتضاربوا، ويسبوا بعضهم..
قال أبو محمد: عن جد هادا بلوة، مو فلاح.
قال أبو الجود: وإذا بدكن الحق، أبو نعيم لحد ما صار عمرو ستين سنة ما نجح بأي شغلة غير الرقص العربي والدبكة.. وأنا بعرف عنو قصة كتير ظريفة. إذا بتحبوا بحكي لكم إياها.
قلنا له: طبعاً منحب.
قال: في مرة من المرات بعدما تأكدوا أولادو أنه ما منه أمل في مجال الفلاحة قرروا يفتحوا له دكان "بقالية". وبالفعل نفذوا الفكرة، وكل واحد منهم دفع خمسة آلاف ليرة حتى اشتروا الدكان والبضاعة المخصصة للبيع بالمفرق. ومرة من المرات كان أبو نعيم قاعد في الدكان بعد المغرب، سمع نقرات على الطبل جاية من الحارة الشرقية، وبعد شوي بلش المزمار يترغل، فما شاف غير إنو جسمو بلش يتحرك ويرقص، وتقريباً صار يرقص وهوي قاعد ع الكرسي، ويمكن أنو فكر شوي بعقلو، وما لاقاها حلوة أنو يوقف ويدبك في أرض الدكان، وع السريع فتح الدرج اللي مخبي فيه قمصان داخلية عتيقة، وجاب المقص وصار يشقشق من القمصان خيطان طويلة ويجدلها على هيئة مناديل خاصة بالدبكة.. ومع أنو في وقتها كان عمرو فوق الخمسين سنة، راح ع الحارة الشرقية هرولة، وهوي عم يلحق صوت الطبل والمزمار، لحتى وصل، ودخل، ولاقى الناس عم تدبك، فدخل بيناتهم بدون استئذان.. ولأن الدبيكة كلهم بيعرفوا مستواه الرفيع في الدبكة، ابتعدوا من طريقو، ووَصَّلُوه رأس الدبكة وصاح واحد منهم (أبو نعيم راعي الأول)، ووقتها سلطن أبو نعيم وجذب أنظار الموجودين في العرس كلهم..
قال العم أبو محمد متشوقاً: وبعدين؟
قال أبو الجود: كان ابنه نعيم في بيته ما شاف غير اندق الباب، فتح، لقى ولد من الحارة قال له: يا عمي نعيم أبوك ترك الدكان مفتوح وطلع، وفي شباب زعران دخلوا وسرقوا كل شي.. نعيم خبر إخوته وراحوا الكل ع الدكان لقوا فيها شوي بضائع ما لحقوا الحرامية يسرقوها.. ولما فكروا أين يلاقوا أبوهم ما كان بدها الشغلة كتير ذكا ليعرفوا أنه عم يدبك في العرس بالحارة الشرقية!
وللحديث صلة