البن اليمني.. عشق وهوية وأنوثة!
هل صحيح أن القهوة نصف أنثى؟
لو أنّ القهوة وجدت في العصور اليونانية لعُبدت كآلهة للسعادة و"المزاج"، رائحتها الشهية، مذاقها الذي ندمنه برغم مرارته، والمزاج الجميل الذي تحيلنا إليه، انسلالها إلى قائمة الصف الأول في مشترياتنا، الإجماع على عشقها، كعشق المرأة الذي لا خلاف عليه على مرّ الأزمان.
القهوة أنثى؛ بتأنّيها ودلالها وتريثها، فقبل أن تذيقك ثمرتها، أنت مضطر (حال زرعتها) لانتظارها عاماً كاملاً حتى تنمو، ثم تستمر في العناية بها خمس سنوات لتقطف أولى ثمارها، ثم تعيش معك أكثر من مائة عام مثمرة كنوع من الوفاء وردّ الجميل لك. أمّا حين تقوم بتحضيرها لتظفر بنشوة مذاقها، فعليك أن تفعل ذلك بعناية وتركيز بالغين، ما لم تفعل ستباغتك بجام غضب رغوتها حين تغادر وعاءها وتطفئ النار، عقاباً لك على انشغالك عنها!
هي رفيقة الجلسات الجميلة، وملطفة الأجواء في المناسبات الحزينة، وهي سيدة المشروبات؛ بل ملكتها، وإلا لما أُطلق اسم مقهى أو "قهوة" على الأماكن التي يتجمّع الناس فيها لاحتسائها مهما تعدّدت المشروبات التي تقدمها. كلّ هذا بعد أن واجهت الكثير من المقاومة قبل أن يتمكن عشاقها من الظفر بها؛ فقد حوربت القهوة في بداية اكتشافها، وحرّمها المفتون المسلمون العثمانيون وعدّوها نوعاً من المسكرات لما لها من قدرة عجيبة على تحسين المزاج، أقفلت المقاهي وعوقب أصحابها فاستمر احتساؤها سراً حتى عادت بقوة أكبر.
وبالمثل، تمّ حظر القهوة من قِبل الكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية بعض الوقت قبل القرن الثامن عشر. لكنها انتصرت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، واتجهت المواقف الإثيوبية نحو شرب القهوة، وانتشر استهلاكها بسرعة بين عامي 1880 و1886؛ ويرجع هذا، إلى حدّ كبير، إلى الإمبراطور منيلك، الذي شربها بنفسه، وماتيوس العاشر، اللذين قاما بالكثير لتبديد اعتقاد رجال الدين بأنّ القهوة مشروب للمسلمين فقط.
أقدم الأدلة المثبتة على شرب القهوة أو معرفة شجرة البن تعود إلى القرن الخامس عشر في الأديرة الصوفية في اليمن، حيث كانت تصل بعشاقها من المتصوفة إلى مراحل عُليا من النشوة الروحية
إنّ من جعلوا القهوة معشوقة تُحتَسى هم اليمنيون؛ إذ إنّ أقدم الأدلة المثبتة على شرب القهوة أو معرفة شجرة البن تعود إلى القرن الخامس عشر في الأديرة الصوفية في اليمن، حيث كانت تصل بعشاقها من المتصوفة إلى مراحل عُليا من النشوة الروحية، وترتبط أهم رواية أسطورية لاكتشاف شجرة البن بالصوفي اليمني غثول أكبر نور الدين أبي الحسن الشاذلي، عند سفره إلى إثيوبيا. تقول الأسطورة إنه لاحظ أنّ الطيور تتمتع بحيوية غير عادية عند تناول التوت (المقصود حبوب البن)، ومن هنا جاء اكتشافها، وتلك الحبيبات ليست بسيطة نهائياً؛ فأنواعها كثيرة تختلف لوناً وحجماً ونكهة وجودة، حيث تتعدّد طرق زراعتها والمناخ المناسب لزراعة كلّ نوع منها.
من بعدها، اشتهر البن في اليمن التي عُرفت بتصدير البن أو القهوة الشهيرة باسم "موكا"، نسبة إلى ميناء المخا التاريخي، حيث كان يتم عبره تصدير البن إلى بقية أنحاء العالم، حتى أنّ أجود أنواع البن وأصنافه الأفضل على مستوى العالم اتخذ من اسم ميناء المخا عنواناً له، فأصبح "موكا"، المشتق من اسم الميناء، ماركة عالمية للبن اليمني الأجود عالمياً، وصار البن الأخضر ثاني أكثر السلع تداولاً في العالم بعد النفط الخام.
قيل: لم يحب القهوة أحد مثل اليمني، في الصباح يتناول مشروب حبوبها، وفي المساء يشرب مغلي قشورها، ويخطط لأفراحه فور موسم حصادها، وبكل حب وعطاء للعالم كله قدّمها.. ثم قرر اليمني أخيراً الاحتفاء بها في يوم خاص بها؛ إذ يحيي اليمنيون، في 3 مارس/ آذار من كل عام، يومهم الوطني "عيد موكا"، أو كما يصفونه "اليوم الوطني لتشجيع زراعة البن" كشجرة وطنية ارتبطت باليمن منذ مئات السنين، كمعشوقة اليمن ورمز لنهضته وحضارته الزراعية، وهوية يعرف بها اليمني أينما اتجه.