التاريخانية... مسار مليء بالعثرات
وُسِمَ القرن التاسع عشر في أوروبا بأنّه قرن التاريخ، ويعودُ الفضل في ذلك بدرجةٍ أولى إلى ظهورِ التوجّه التاريخاني الذي أثّر بشكلٍ ملحوظ في فلسفة وفكر هذا القرن، كما ساهم في ميلادِ مدارس تاريخية مهمة بعد ذلك، لِما أدلى به من مفاهيم جديدة ورؤية مغايرة للتاريخ وسيره العام، فقطعَ علمُ التاريخ، ومعه فكر الإنسانية، أشواطًا وقفزاتٍ كبيرة مع هذا التوجّه.
يعيدُ فريدريك بيزر أصول التاريخانية كتوجّه لا يزال غير واضح إلى نهاية القرن الثامن عشر، مع من يعتبرهم آباءها الروحانيين من أمثال هيردر وجورج هامان، اللذين لعبا دورًا مهمًا في ضبط أساليبها وأدواتها المنهجية، لكنّهم لم يصلوا إلى أطروحاتها الأبستيمولوجية التاريخية وتوجّهها الفكري العام. ويرى بول ريكور أنّ كلمة "التاريخانية" لم تُخترع إلا مع بداية القرن التاسع عشر التي سيعمل فريدرك هيغل على طبع دلالتها فلسفيًا، حين تحدّث في كتاب "فينومينولوجيا الروح" عن المسيحية وتاريخانيّة المسيح، كما أعطى من خلال محاضراته حول فلسفة التاريخ التي ذاع صيتها في كلّ أوروبا وجُمِعت في كتابِ "العقل في التاريخ"، دفعةً قويّة للتاريخانية، حتى تصبح أكثر "تاريخية"، وذلك بعد تأكيده أنّ بإمكان العقل تحديد القوانين العامة والكليّة للتاريخ كما يفعل بالنسبة للعلوم الطبيعية، لكن بطريقةٍ غائيةٍ تأويليةٍ، وليست ميكانيكية رياضية.
لقد حدّدت هذه الفكرة أنّ التاريخ يسير نحو غايةٍ وهدف، وهو بذلك لا يزال أسير الفلسفة، غير أنّ التاريخانية حين تبلورها بشكلٍ كبير على يد ليوبولد فون رانكه الذي كان يهدف بمشروعه أن يجعل كتابةَ التاريخ أكثر احترافية واعتمادًا على الوثائق المصدرية، وأن يطبعه بسمة العلم، ستتصادم مع هذه الفكرة وتفرش لنفسها طريقًا خاصًا تسيرُ عليه وتنثر منه على فكر أوروبا لعقود.
بعد الشذرات التي ظهرت هنا وهناك واضعةً أسس التاريخانية، تجلّت هذه الأخيرة حسب المؤرخ، عبد الله العروي، بشكلٍ واضح وبارز، مظهرةً كلّ مقوّماتها المنهجية والفكرية منذ أواسط عشرينيات القرن التاسع عشر إلى نهاية القرن مع النقد الذي طاول الثورة الفرنسية، إذ ساهمت في هذا النقد وتجاوزته إلى نقدِ فلاسفة التاريخ، وتمّ ذلك من خلال أبرز ممثليها (رانكه، بوركهارت ودلتاي)، والذين لم يروا للتاريخ غاية نهائية يسير نحوها، بل أصرّوا على أنّ كلّ حقبةٍ فريدةٍ من نوعها، وكلّ ثقافةٍ وعصر هو غاية في حدِّ ذاته، وليست مجرّد مرحلة في تطوّر العقل أو الفكرة كما أقر بذلك هيغل وفولتير من قبله، وأطلق العروي على هذه الحقب مصطلح "الكلة" لما تحتويه من كافة العناصر التاريخية اللازمة حسب تفسيرهم. لقد شدّد "التاريخانيون" من هذا المنطلق أنّ كلّ شيء في العالم الإنساني تاريخي، أي جزء من التاريخ، وبالتالي فجميع القيم والنظم والظواهر الاجتماعية المختلفة هي نتاج الزمان والمكان، وهكذا أبرزوا أنّ النُظم الإنسانية يمكن أن تتغيّر مع تغيّر السياق، فقاموا بإلغاء الافتراضاتِ والأبعاد الميتافيزيقية للتاريخ، والتي يسعى من خلالها فلاسفة الأنوار والمثاليون لإيجادِ نظرةٍ أبديّةٍ يمكن من خلالها الحكم على كافةِ المجتمعات على مرِّ العصور.
أُعيد تسليط الضوء على التاريخانية من قبل مارتن هايدغر في كتابه "الكينونة والزمان"، لكن من زاويةٍ مُغرقةٍ في الفلسفة
لم تقف المواجهة عند هذا الحد، خاصة في وجه المثالية، حيث اتهموها بالغلو في الجانب النظري وإصدار تعميمات تاريخية مُهملةً الجانب العملي، فقام التاريخانيون من خلال هذا النقد بقطيعةٍ أبستيمولوجية، جاعلين من التاريخ علمًا مستقلًا يتبع أصوله ومناهجه الخاصة والمتفرّدة.
لم تهنأ التاريخانية كثيرًا حتى بدأت الأزمة تلوحُ في أفقها، حين وقعت هي نفسها ضحيّة "لمقاربة تاريخانية"، مفادها أنّ كلّ رؤيةٍ كونيّة هي نتاج ظروف تاريخية محدّدة، ما وضعها تحت علاماتِ استفهامٍ كبيرة، كما أنّها انتُقدت لمقاربتها التي تخصّ القيم الإنسانية، حيث تؤّول بهذه الأخيرة لنسبويّةٍ متطرّفة، وقد نُعتت نتيجة لذلك بالعدمية. وقد تفاقمت وضعيتها أكثر إبان ظهور المدرسة التاريخية الوضعية التجريبية التي لا تهتم إلا بالفهم واعتماد قوانين عامة للتاريخ كالتي في العلوم الطبيعية، ما سيعطي وجهة حتمية لا واعية للتاريخ، ويجعله جامدًا لا مغزى يحمله، وقد دعم منهجها العديد من الفلاسفة لإبعاد التاريخ عن ميادين التفسير والتحليل. إلا أنّ فيلهلم دلتاي الذي كان يُولي اهتمامًا خاصًا بالجانب الروحي للإنسان أصرّ على أهميّة الوعي بالطبيعة فوق الحسيّة وفوق العقلية للإنسان، فعمّق البون بين التفكير التاريخي الذاتي وبين كلّ مشروع تجريبي لعلمٍ تاريخي مفتقر للروح وخال منها، وهكذا فقد ترك التاريخانية متشبثة بحبلٍ رقيقٍ، سُرعان ما سينقطع بعد الحرب العالمية الأولى.
لقد خفت نجم التاريخانية بشكلٍ سريع إلى درجةِ أنّ بول ريكور قام بجرد عدد مرّات ذكر الكلمة في العشرين سنة الأولى من القرن العشرين، وهو أمر أذهل العديد من المفكرين بسبب التأثير الكبير الذي كان للتاريخانية على مرّ القرن التاسع عشر. غير أنّه قد أُعيد تسليط الضوء عليها من قبل مارتن هايدغر في كتابه "الكينونة والزمان"، لكن من زاويةٍ مُغرقةٍ في الفلسفة.