التربية في زمن التقنية... مقدمات نقدية
قيل إنّ صورة الطفل، اللاجئ السوري، آلان الكردي، وهو ملقى على وجهه على رمل الشاطئ التركي بعد انقلاب المركب، قد طوى بموته تاريخ الشرق الأخلاقي، حيث لُوحظ كيف أنّ الموت أصبح يشتهي الأطفال ولم يعد للحمهم طعماً مراً بالنسبة إليه، ولا يمتلكون إزاءه أيّة قدرة على المقاومة، أي لم يعد أطفالنا محصنين من أيّة إرادة إساءة قد تترّبص بهم، مع بدء "عملية إلقاء الأطفال إلى التهلكة في مجتمعاتنا". هذه هي الخلاصة التأويلية استنبطّها من تلك الصورة، فمعها بدأت كلّ أنواع المراكب (الأسرة، المدرسة، الإعلام) تنقلب بالأطفال وتلقي بهم على وجوههم في شواطئ مجهولة الملامح، كما وقع للطفل اللاجئ آلان، فهل كل أطفالنا لاجئون بمعنى ما؟ لاجئون دون محيط ودون قبلة راعية للمصير؟
لنفكر في المركب الكبير وهو "الأسرة"، وفي وضع الطفل اليوم على هذا المركب التائه في محيط يحبل بالتغيّر، وخاصة في سياق تغزوه التقنية والصورة (الهواتف، اللوحات الإلكترونية، التلفزيون، فيسبوك، واتساب، يوتيوب، ألعاب فيديو! فيديوهات...) وإلى أيّ حد يمكن القول إننا اليوم نمتلك أطفالنا أو نريدهم، وإلى أيّة جهة ينتمون؟ ولمن يتم تسليم الأطفال اليوم، وقد درجت مجتمعاتنا على تسليم أجزائها دوما لمهرّب ما ليذهب بها بعيدا عن نفسها؟ ومن هم المربون/ المهربون اليوم؟ وأي معنى يبقى للتربية في زمن التقنية؟
نحن نشهد تغييراً على نحو غير مسبوق: "أسر تتبرأ من ضجيج أطفالها وتسلمهم للهواتف واللوحات الإلكترونية"! إنها أسوأ عملية تخلّ في التاريخ، تنتج شكلاً جديداً من "المتخلّى عنهم" شاردين أو متشرّدين في شوارع المواقع الإلكترونية دون أيّة مناعة تقيهم من عنف الآلة والاعتداءات الخطابية التي تعجّ بها الساحة الإلكترونية. لقد سبقت ذلك عمليات تخلّ كثيرة عن الطفل في التاريخ الرمزي للإنسانية، لكنها كانت لها طرافة خاصة لا تتكرّر، فقد سبق مثلا أن أم النبي موسى عليه السلام ألقته في اليم فنجا، وألقي بالطفل/ النبي يوسف عليه السلام في البئر فالتقطه بعض السيّارة، ليكون التخلّي هنا باب المستقبل. لكن أيّ يم نلقي فيه اليوم أطفالنا؟ وأي سيّارة تلتقط يوسف اليوم من القاع؟
إننا نشهد اليوم عملية لجوء افتراضي، ونكتة المشكل هنا أنه لجوء جماعي لا يبقى فيه أحد يمكن توجيه اللائمة إليه، "الكل ضحايا" لكن أين الجلاد؟ إنّ الجميع في مركب واحد، الآباء والأبناء، بل صار الأبناء أنفسهم يحذرون الآباء من اقتراب العاصفة دون آذان صاغية.
عنف خطابي وبصري تعجّ به الهواتف، التي تحوّل الأطفال من طيور الجنة إلى صقور الديجتال
أصارع هذا الحكم في نفسي "التربية في زمن التقنية مهمة مستحيلة"، لكنه خلاصة ما تنفك تخرجها كلّ عملية تأمل في السلوك التربوي اليومي للأسرة، هذا الرحم الكبير والحيوان الاستهلاكي المنزوع السلاح، وليس الغرض هنا أن نواصل لعن الدهر الإلكتروني، ولا أن نرثي زمناً تربوياً ولّى دون رجعة، ولا إنتاج بكائية جديدة في عزاء القيم وموت الأخلاق، بحيث إنه من الخطير جداً أن نظن ظنّ السوء بهذه المكتسبات التكنولوجية غير المسبوقة للأزمنة الحديثة وإعلانها لعنة موصومة على الجسد الأخلاقي للأجيال الحالية، لكن الأمر يقتضي إحداث بعض الضجيج والوسوسة الفكرية، من جهة التنبيه إلى أنّ الطفل المعاصر يمنع اليوم بكلّ الوسائل المتاحة من أيّ انتماء صحي إلى طفولته، حيت يتم إشراكه مباشرة، وعلى نحو قسري، حتى قبل أن يتعرّف إلى جسده وأبويه وأشيائهم في معارك الراشدين داخل الساحة الرقمية دون أيّة وسائل دفاعية أمام العنف الخطابي والبصري الذي تعجّ به الهواتف، التي تحوّل الأطفال من طيور الجنة إلى صقور الديجتال.
إننا نعيش في هذا السياق معارك من نوع آخر، إنها ما يسميه المفكر فتحي المسكيني "حروب المناعة"، ما يجعل شكل التربية التقليدية مجرّد تربية بالية لا تستجيب لتحديات الطفل المعاصر حيث الخصم التكنولوجي أذكى من الطفل والآباء والأمهات على السواء، هذا الطفل أصبح يرضع الغباء واللافكر من ثدي هاتف ذكي لا يفكر، وفي ظلّ حضانة إلكترونية تنتزع الأطفال من أمهاتهم وتعيد الآباء إلى الحضانة.
إنّ للتربية اليوم، ويجب أن تكون لها مهام جديدة، بوسائل غير تقليدية، ليس مهام الإكساب والملء، وإنما الصيرورة إلى عملية إفراغ وفرملة، فلم تعد مهمة التربية نقل المعلومة والقيمة، وإنما تعليم كيفية التفاعل مع تلك الثقافة، وهنا يُطرح وبإلحاح إعادة التفكير في تمارين جديدة في التربية تلائم التغيرات الجارية نحو طفل أذكى في مقابل هاتف ذكي.